العفّة

تمهيد
لمّا خلق الله الإنسان أودع فيه جملة من القوى، بها يصل إلى كماله وينال منافعه. ولأجل أن تتحرّك هذه القوى على هذا الصّراط المستقيم، فإنّ الله تعالى وهب هذا الإنسان قوّة العقل التي يميّز فيها النّافع من الضارّ لكي لا تتّجه قواه المختلفة نحو الفساد والهلاك.

وكانت القوّة الشّهويّة التي أنعم الله بها على الإنسان ـ كما يقول الإمام الخمينيّ ـ من أجل حفظ النّظام العائليّ وتحقيق الكرامة والسّعادة له في الدّنيا والآخرة. وقد وضع الله سبحانه مجموعة من القوانين والتّشريعات التي لو التزم بها أصحاب القوّة الشّهويّة لضمنوا تحقّق تلك الأهداف. ولكي يضمن استعمال هذه القوّة وفق النّظام التّشريعيّ اللائق، كان لا بدّ من صيانة أقوى هي الصّيانة الأخلاقيّة.

فما هي الأخلاق التي تجعل الالتزام بأحكام القوّة الشّهويّة سهلًا وميسّرًا؟ وكيف نحقّق هذه الانطلاقة في أنفسنا؟

التّعريف العلميّ
إنّ من الأخلاق التي تجعل القوّة الشهويّة معتدلة لا تميل إلى جانب التّفريط والخمود ولا إلى جانب الإفراط والهوس خُلُق العفاف.

“إنّ الكثير من الأخلاق الفاضلة هي التي تتوسّط جانبي الإفراط والتّفريط والعفّة خلق يتوسّط بين رذيلة الشّره ورذيلة الخمود”1. “ولا بدّ من معرفة أنّ علماء الأخلاق أرجعوا كافّة الفضائل النفسيّة، إلى أمور أربعة هي: الحكمة، والعفّة، والشجاعة، والعدالة، واعتبروا أنّ الحكمة فضيلة للنّفس النّاطقة التي تُميّز وتفرّق الإنسان عن غيره، والشّجاعة من فضائل النّفس الغضبية، والعفّة من فضائل النّفس الشّهويّة، والعدالة ترعى الفضائل الثّلاثة”2.

ولهذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “قسّم الحكماء أجناس الفضائل إلى أربع فضائل هي: الحكمة والشجاعة والعفّة والعدالة، إذ إنّ للنّفس قوّتين هما: قوّة الإدراك وقوّة التّحريك، ولكلّ منهما شعبتان، فقوّة الإدراك تنقسم إلى العقل النظريّ والعقل العمليّ، وقوّة التّحريك تنقسم إلى قوّة الدّفع (لغير الملائم) وهي قوّة الغضب، وإلى قوّة الجلب (للملائم) وهي قوّة الشهوة. والاعتدال في كل واحدة من هذه القوى الأربع وإخراجها من حدّي الإفراط والتّفريط فضيلة. فالحكمة عبارة عن تعديل القوّة النّظرية وتهذيبها، والعدالة تعديل القوّة العمليّة وتهذيبها، والشّجاعة تعديل القوّة الغضبيّة وتهذيبها، والعفّة تعديل القوّة الشهويّة وتهذيبها”3.

إنّ أكثر النّاس يميلون بحكم البيئة التي تثير الغرائز نحو الشّره والتهتّك واستعمال قوّة الشّهوة بصورة إفراطيّة. ولعلّه لهذا الأمر قد جعل الحديث المنقول عن الإمام الصّادق عليه السلام العفّة ضدًّا للتهتّك.

أهميّة العفّة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “لو تفكَّر الإنسان الواعي قليلاً في هذا الأمر لعرف بوضوحٍ كامل أنّ جنايته الحقيقيّة إنّما تقع إذا هتك ستر العفّة لهذه القوّة التي أنعم الله بها على الإنسان من أجل حفظ النّظام العائليّ، وتحقيق الكرامة والسّعادة له في الدّنيا والآخرة، فكيف يسخِّرها لغايات هي على الضدّ ممّا يُراد منها؟! ويقولُ في رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إنّ الله يحبُّ الحييَّ الحليم العفيف المُتَعفِّف”4.5

فإذا نظرنا إلى جميع التحرّكات والأنشطة التي يقوم بها البشر لوجدنا أنّ معظمها ينطلق من هذه القوّة لأجل تأمين مقتضيات الشّهوة. أمّا القسم المتبقّي منها فإنّه عبارة عن دفع المضار، بل إنّ الكثير من استعمالات القوّة الغضبيّة إنّما هي لخدمة القوّة الشهويّة. ولا شكّ بأنّ قوّة الوهم عندما تتغلّب على قوّة العقل وتمنع من سريان نوره في النّفس، فتعرض هذه النّفس عن الاستماع إلى أحكامه وأوامره، فلن يبقى سوى الاندفاع الشّهوانيّ والغضبيّ الفاقد للهداية. وتصبح مملكة الإنسان كسفينةٍ تخوض غمار لجج البحار العاتية دون ربّان خبير وعارف. هنا تأتي الحاجة الماسّة إلى العقل الذي يحدّد ما ينفع وما يضرّ في الشّهوة. وعندما يلتزم الإنسان بأحكامه ويستقرّ عليها مدّة يرسخ فيه خلق العفّة، فيكون أفضل معين للعقل على إكمال سيطرته على وجود الإنسان وعالمه الأخلاقيّ والسّلوكيّ.

بعض مناشئ العفّة
يمكننا أن نحدّد مجموعة من الأسباب التي تساهم في اعتدال القوّة الشهويّة وحيازة ملكة العفّة. ومنها:
1- الإيمان
وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّ الحياء والعفّة من خلائق الإيمان، وإنّها لسجيّة الأحرار وشيمة الأبرار”6 وهذا الحديث يدلّ على أنّ التّفاعل القلبيّ مع آيات حضور الله في الكون والحياة يجعل الإنسان معتدلًا في استعمال شهوته. وسرّ ذلك أنّ المؤمن الذي تعلّق قلبه بالله تعالى وتوجّه إليه سيجعل كل قوّة منحه الله إيّاها في سبيل الوصول إلى لقائه. وعندها لن يكون للشّهوة في حياته دور القيادة والسّيطرة. وهذا هو العامل الأهمّ في العفّة.

2- الفطرة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “إنّ العفّة من الأمور الفطريّة الملازمة للفطرة السّليمة المخمّرة، وبالتّالي من جنود العقل، في حين أنّ الهتك من مقتضيات الفطرة المحجوبة ومن جنود إبليس والجهل. إذ إنّ العدالة في عمل كلّ قوة، وهي بمثابة جنس العفّة (وأصل ظهورها) هي أمرٌ فطريّ يقابله الجور، وهو ضدّ الفطرة السّليمة كما تقدّم سابقًا، مثلما أنّ الخضوع الكامل والتّبعيّة للكُمَّل هو أمرٌ فطريّ وما يقابله خلاف الفطرة.

كما أنّ العفّة نفسها والحياء والحشمة من الأمور الفطريّة التي جُبل عليها الإنسان، في حين أنّ التهتّك والفحشاء والوقاحة مخالفة لفطرة كلّ إنسان، لذلك فإنّ حبّ العفّة والحياء مخمّر في فطرة كلّ إنسان مثلما أنّ بغض التّهتّك وانعدام الحياء مخمّر فيها أيضًا”7.

3- ولاية أهل البيت عليهم السلام
ففي الحديث المرويّ عن مفضل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: “إِيَّاكَ وَالسَّفِلَةَ فَإِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ عَفَ‏ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ وَاشْتَدَّ جِهَادُهُ وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ وَرَجَا ثَوَابَهُ وَخَافَ عِقَابَهُ فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ”8.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: “وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ‏ وَمِنْ طُعْمِهِ‏ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ”9.

4- المعرفة
فإنّ من عرف أنّ ما يحتاجه مقسومٌ مضمونٌ من عند الله لن يتهالك من أجل الوصول إليه، وبالتّالي لن يزيد من استعمال قوّة الشّهوة لأجل نيل المزيد من الشّهوة. فعن الحسين عليه السلام: “أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا هَذَا لَا تُجَاهِدْ فِي الرِّزْقِ جِهَادَ الْغَالِبِ وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى الْقَدَرِ اتِّكَالَ مُسْتَسْلِمٍ فَإِنَّ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَالَ فِي الطَّلَبِ مِنَ الْعِفَّةِ وَلَيْسَ الْعِفَّةُ بِمَانِعَةٍ رِزْقاً وَلَا الْحِرْصُ بِجَالِبٍ فَضْلًا وَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ وَالْأَجَلَ مَحْتُومٌ وَاسْتِعْمَالَ الْحِرْصِ جَالِبُ الْمَآثِمِ10.

5- أولوية الجهاد الأكبر
الذين عرفوا أنّ هناك جهادًا كبيرًا يحتاج إلى جهد وسعي يفوق مساعيهم العاديّة في الحياة وآمنوا أنّهم إذا لم يسلكوا هذا الطّريق فسوف يحتنكهم الشّيطان ويجعلهم من أوليائه، هؤلاء هم الذين سيقدرون على فهم معاني الأحاديث التالية ووضعها في مكانها الصّحيح.

فعن أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: “أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ عِفَّةُ بَطْنٍ وَفَرْجٍ وَمَا من شَيْ‏ءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ”11. وعنه عليه السلام: “قَالَ لَهُ رَجُلٌ إِنِّي ضَعِيفُ الْعَمَلِ قَلِيلُ الصَّلَاةِ قَلِيلُ الصَّوْمِ وَلَكِنْ أَرْجُو أَنْ لَا آكُلَ إِلَّا حَلَالًا وَلَا أَنْكَحَ إِلَّا حَلَالًا، فَقَالَ وَأَيُّ جِهَادٍ أَفْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وفَرْجٍ”12.

وقال عليه السلام: “مَا مِنْ شَيْ‏ءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَفَرْجٍ وَمَا مِنْ شَيْ‏ءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ”13.

إخضاع العفة لحكم العقل والشرع
غالبًا ما يكون الحديث عن أسباب ومناشئ الأخلاق حديثًا عن كيفيّة تحصيلها. فمن علم أنّ الفطرة أساس هذه الفضيلة اتّجه نحو تحصين فطرته واكتساب المزيد من أنوارها. وجاهد من أجل إزالة الحجب المانعة منها. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “أمّا جانب التّفريط في النّفس البهيميّة فهو “الخمود” وهو عبارة عن كبت القوّة الشّهويّة فوق ما يقتضيه حدُّ الاعتدال والمقدار المطلوب، وتعطيل هذه القوّة النّبيلة التي أنعم الله بها على الإنسان لكي يحفظ بها نفسه ونوعه. فإذا أُخضعت هذه القوّة لحكم العقل والشّرع، وأُخرجت من حدَّي الغلوّ والتّقصير والإفراط والتّفريط، وكان تحرّكها منسجمًا مع العقل والشّرع، ضمن حاكميّة جنود الله، ظهرت فيها السّكينة والطّمأنينة، وملكةُ الاعتدال واكتسبت صبغة عقليّة بل إلهيّة، وهذه هي “العفّة”14.

أكبر مانع من العفّة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “والانسان الذي وقر فيه هذا الحبّ (حبّ الدّنيا) مجانب لجميع الفضائل المعنويّة، وإنّ الشّجاعة والعفّة والسّخاء والعدالة التي هي مبدأ جميع الفضائل النّفسانيّة لا تجتمع مع حبّ الدنيا”15.

فمن اتّخذ الدّنيا وسيلةً لتعزيز الأنا وانطلق من حبّ النّفس في التّعامل مع مواهب هذه الحياة، سيرى كلّ شيء فيها شهوة لنفسه ويطلبها لتأمين حظوظ النّفس وآمالها. وعندها ستعظم شهوته وتفوق مقدار حاجاته الطّبيعيّة فيتملّكه الهوس ويسيطر عليه الشّره ولا يبقى قادرًا على حفظ الاعتدال والسّير الصّحيح على الصّراط المستقيم للمنافع والنّعم الإلهيّة.

تحصيل العفّة بالتفكر والترويض
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “الخُلُق عبارة عن حالة نفسيّة، تدفع الإنسان نحو العمل من دون تَروّي وتفكّر. فمثلاً إن الذي يتمتّع بالسّخاء، يدفعه خُلُقه هذا إلى الجود والإنفاق من دون حاجة إلى تنظيم مقدّمات، وترتيب مرجّحات. وكأنّ هذا الخُلُق غدا من الأمور الطّبيعيّة للإنسان مثل النّظر والسّمع. وهكذا النّفس العفيفة التي أصبحت العفّة خُلقًا لها جزءاً طبيعيًّا لها، وما دامت النّفس لم تبلغ هذا المستوى من التجذّر الخُلُقيّ بواسطة التّفكّر والتدّبّر والتّرويض، لم يكن لها أخلاق وكمال، ويُخشى عليها من زوال الخُلُق الكريم الذي يُعدّ من الكمالات النّفسيّة، وتغلب عليها العادات والخلق السّيّئ. وأمّا إذا بلغ الخُلُق مستوى الأفعال الطّبيعيّة في الإنسان، وغدا من قبيل القوى والآلات، وظهرت سلطنة الحقّ وقهره، لكان زواله مشكلًا ونادرًا”16.

* دراسات أخلاقية – الأخلاق المحمودة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- الأربعون حديثًا، ص 424.
2- الأربعون حديثاً، ص 547.
3- جنود العقل والجهل، ص 147-148.
4- الكافي، ج2، ص 112.
5- جنود العقل والجهل، ص 258.
6- تصنيف غرر الحكم، ص 257.
7- جنود العقل والجهل، ص 257.
8- الكافي، ج2، ص 233.
9- نهج البلاغة، ص417.
10- مستدرك الوسائل، ج 13، ص 35.
11- بحار الأنوار، ج66.
12- (م.ن)، ج68، ص 273.
13- (م.ن)، ج75، ص 141.
14- جنود العقل والجهل، ص 256.
15- معراج السالكين، ص 62.
16- الأربعون حديثًا، ص 546.