ليلة القدر والصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)

شبكة المعارف الإسلامية_بتصرف

ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: “إنا أنزلناه في ليلة القدر، الليلة فاطمة”([1])، هذه الرواية تطرح إشكالا خلاصته هو:

تعارض الرواية الصادقية مع ظاهر القرآن، فظاهر القرآن قائم على أن ليلة القدر، هي ليلة من ليالي شهر رمضان، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾([2])، وفي آية أخرى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾([3])، فمقتضى الجمع بين هاتين الآيتين هو نزول القرآن، في ليلة القدر التي هي جزء من شهر رمضان، فكيف نوفق بين هذا وبين الرواية الصادقية الشريفة؟

إن حل هذا الإشكال يتوقف على التفريق والتفكيك، بين ظاهر القرآن وباطنه، فإن ظاهر آيات الكتاب الحكيم، تعين ليلة القدر وتعرفها بأنها ظرف زماني، وأما باطن الآيات ممثلة برواية الإمام الصادق عليه السلام، تشير إلى أن ليلة القدر هي البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، ولذلك جاء الحث الشديد والإرشاد الأكيد في الروايات المعصومية، على المجاهدة لمعرفة الزهراء البتول عليها السلام، لأن معرفتها هي معرفة لليلة القدر، كما جاء في الرواية الصادقية: “من عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر”.([4])

إن المتتبع لهذه الأخبار الواردة في هذا الصدد، يتبادر إلى ذهنه سؤال له علائق بما نحن فيه، ما هو السر في الربط بين ليلة القدر وبين السيدة المباركة الزهراء عليها السلام؟

هناك توجيهات ثلاثة لدفع هذا التساؤل:

التوجيه الأول:
لقد ثبت في الروايات المعتبرة أن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، هي بضعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعة مني([5])، والبضعة هنا بمعنى: القلب، فيكون معنى الرواية: فاطمة قلبي، وبما أن قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو قلب فاطمة عليها السلام، فكل ما هو مكنون ومودع في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو أيضاً مودع في قلب الصديقة الشهيدة عليها السلام، ومن ذلك القرآن فإنه قد نزل قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستقر فيه، كما في الآية الكريمة: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾([6])، فبناء على أن الزهراء عليها السلام هي قلب النبي نتيجة كونها بضعة له، يكون القرآن أيضاً مستقراً ومخزوناً في قلبها صلوات الله وسلامه عليها.
وعندما نقول بأن القرآن مودع في قلب الصديقة الزهراء عليها السلام، فإننا نعني بذلك الوجود الملكوتي والنوري له، والذي أشارت إليه هذه الآية: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَ﴾([7])، بلحاظ أنه لو كان المقصود هو الحد الملكي والوجود المادي، لم يكن في ذلك أي ميزة للزهراء ومقام استثنائي، بل يكون مقاماً مشتركاً، بينها وبين الأئمة عليهم السلام والمؤمنين، فإن أي واحد قادر على حفظ القرآن في قلبه، بحفظ سوره وآياته وألفاظه.

إذاً لباب هذا التوجه هو: أن الوجود الملكوتي للقرآن، اختصّ الله به قلب شخصين، وهما خاتم النبيين والبضعة الزهراء، ففي قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾([8])، إشارة إلى استيداع قلب المصطفى لنور القرآن، وفي قوله عز من قائل: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾([9])، إشارة إلى إستيداع قلب فاطمة أيضاً، لهذا الوجود النوري للقرآن الكريم، وإنما خص الآية بفاطمة عليها السلام مع نزول القرآن على قلب المصطفى أيضاً، لمعلومية الثاني بآيات أخرى وللمناسبة العرفية بين لفظ الليلة والزهراء عليها السلام لكونها أنثى.

التوجيه الثاني:
للزهراء عليها السلام مقامات جمّة، ومناقب عدة، وواحد من مقامتها المتطاولة في الشرف والعلو، هو مقام الحجيّة على الأئمة الأطهار والقادة الأبرار، من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا ورد عن الإمام العسكري عليه السلام قوله: نحن حجج الله على الخلق وجدتنا فاطمة حجة الله علينا([10])، فما هو كنه الحجية الفاطمية ومعناها؟

إن حجيتها عليها السلام على الأئمة عليهم السلام، ناشئة عن سيطرتها على علم التأويل، فإنها عليها السلام قد أودع عندها تأويل القرآن، والذي تم انتهاله وتحصيله من مصحف فاطمة عليها السلام، ذلك أن الزهراء عليها السلام بعد ارتحال أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الملكوت الأعلى نزل عليها ملك، يحدثها ويسليها كما نزلت الملائكة على مريم العذراء عليها السلام، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾([11])، وكان الذي يدون ما تحدث به الملائكة، هو أمير المؤمنين علي عليه السلام، فصار من ذلك مصحف فاطمة([12])، الذي هو تأويل للقرآن وليس قرآنا، كما يحاول أن يلبس به، بعض خصوم الإمامية عليهم.

لذا إن علم التأويل هذا كان تشريفاً للزهراء (عليها السلام)، فلقد شاءت حكمته سبحانه وتعالى، أن يجعل بعض أهل البيت عليهم السلام، محتاجاً إلى البعض الآخر، فأم أبيها الزهراء تحتاج إلى الصديق الأكبر علي، لأنه إمام زمانها وحجته عليها، وعلي يحتاج إلى فاطمة من زاوية أخرى، فإن فاطمة كانت المعدن لعلم التأويل، الذي تلقاه علي وأهل بيته من لدنها الشريف.

إذاً القرآن كان له تنزيل نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾([13])، وله تأويل نزل على سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء ليها السلام، لذلك صح أن يقال إن ليلة القدر فاطمة، بلحاظ أنها صلوات الله وسلامه عليها ظرف تأويل القرآن وليلة القدر ظرف تنزيله.

التوجيه الثالث:
من جملة معاني ليلة القدر، التقدير ففيها تقدر الأرزاق والآجال والبلايا والسعادة والشقاء، وبذلك صرحت هذه الآية: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾([14])، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، أي فيها يقدر كل أرزاق البشر ومصائبهم وآجالهم.

وبما أن ليلة القدر هي ليلة التقدير، فإننا نربط ذلك بمصحف فاطمة الذي نزل به ملك عليها، بلحاظ أن مصحف فاطمة على بعض الروايات، هو مصحف التقدير الخاص بأهل البيت عليهم السلام، قدر الله فيه الحوادث والوقائع، والمنايا والرزايا التي تقع بالأئمة عليهم السلام ([15])، من أولهم إلى آخرهم، من مولى المتقين وسيد الموحدين علي عليه السلام، وإلى خاتم الوصيين وبقية الله في الأرضين محمد المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وبما أن ليلة القدر هي ليلة التقدير، وتقدير أهل البيت نزل على فاطمة عليها السلام، تكون فاطمة هي أول ليلة القدر، بمعنى أنها مستودع التقدير الذي يسري على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من أول السلسلة المباركة من الأئمة إلى ختامهم، من الإمام علي عليه السلام إلى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه.

* السيد منير الخباز

[1] بحار الأنوار ج 43 ص 65 ومستدرك سفينة البحار ج 9 ص 298.
[2] سورة البقرة الآية 185.
[3] سورة القدر الآية 1.
[4] بجار الأنوار ج 43 ص 65.
[5] وسائل الشيعة ج 20 ص 67 وبحار الأنوار ج 21 ص 279 وجامع أحاديث الشيعة ج 16 ص 331 وصحيح البخاري ج 4 ص 210 وصحيح مسلم ج 7 ص 141 ومسند أحمد بت حنبل ج 4 ص 5.
[6] سورة الشعراء الآيات 193 – 194.
[7] سورة الشورى الآية 52.
[8] سورة الشعراء الآية 193 – 194.
[9] سورة القدر الآية 1.
[10] الأسرار الفاطمية ص 37.
[11] سورة آل عمران الآية 42.
[12] راجع الكافي الشريف ج 1 ص 239 -240 -241 وبحار الأنوار ج 30 ص 245 وج35 ص 324 وج 37 ص 176 وجامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 9-135.
[13] سورة الشعراء الآيات 193 – 194.
[14] سورة الدخان الآيات 3-4-5.
[15] راجع الكافي ج 1 ص 241 وبحار الأنوار ج 43 ص 79 وجامع أحاديث الشيعة ج 1 ص9.

0