مجالس السيرة الحسينية

الكتاب: مجالس السيرة الحسينية
نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
إعداد: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الطبعة:الخامسة تشرين2، 2010م- 1431هـ
جميع حقوق الطبع محفوظة ©

الليلة الأولى: مجلس استقبال شهر محرّم

هَلَّ المُحَرَّمُ فاسْتَهلَّتْ أَدْمُعِي                   وروَى زَنادُ الحُزنِ بينَ الأَضْلُعِ

مُذْ أَبْصَرَتْ عَيني بُزُوغَ هِلالهِ                مَلَأَ الشَّجَا جِسْمِي فَفَارَقَ مَضْجَعِي

وَتنغَّصَتْ فيه عَليَّ مَطَاعِمِي                  وَمَشَارِبي وازْدَادَ فِيهِ تَوجُّعِي

الله يَا شَهْرَ المُحَرَّمِ مَا جَرَى                  فيه عَلَى آلِ البَطِينِ الأَنْزَعِ

الله مِن شَهْرٍ أَطَلَّ عَلَى الورَى                بمصَائِبٍ شَيَّبْنَ رَوْسَ الرُّضَّعِ

شَهْرٌ لَقَدْ فُجِعَ النَّبِيُّ محمّدٌ                    فيهِ وأيُّ مُوحِّدٍ لم يُفْجَعِ

شَهْرٌ بِهِ نَزَلَ الحسينُ بِكربَلا                  في خَيرِ صَحْبٍ كالبُدُورِ اللُّمَّعِ

فَتَلأْلأَتْ مِنْها الرُّبوعُ بِنورِهِ                   وَعَلَتْ عَلَى هَامِ السِّمَاكِ الأَرْفَعِ

لَكِنَّمَا البَارِي أَحَبَّ لِقَاءَهُم                     فَغَدَوا على البَوْغَا بِأَكرَمِ مَصْرَعِ

وَبَقَى وَحِيدَاً بَعْدَهُمْ سِبطُ الهُدَى              يَنعاهُمُ أَسَفَاً بِأَشرَفِ مَدْمَع

 شعبي:

من حين هل الشهر هل ابكل الاحزان        اوجدد مصاب اللي قضى بالطف حيران

ناحت عليه املاكها والانس والجان          على قتيل اللي قضى بالطف منحور

واعظم مصيبة ذوبت مهجة افّادي           أهل المدينة سمعوا الزهره تنادي

عاشور جاني او زاد حزني على اولادي    نصبت مياتم يا خلك في وسط القبور

أبوذيّه:

اهلال الكدر والاحزان هليت              اودمه عين الموالي بيك هليت

يشهر النوح عالاسلام هليت              لا تظهر او تفرح بيك اميّه

هِلالٌ تَجَلَّى ونَاعٍ نَعَى                     لآلِ الرَّسُولِ فَتىً أَرْوَعَ

تَقَوَّسَ مُنحَنِياً كالحُسينْ                   يَرُومُ لِسَهْمِ الحَشَا مُنْزَعَا

ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً.

هذه الحرارة تتأجّج في بداية هذا الشهر الحزين شهر المحرّم، شهر الأحزان والمصائب، يتراءى للمؤمنين الموالين كلّ ما جرى في هذا الشهر ببصيرة قلوبهم العاشقة والمحبّة للحسين عليه السلام، فتنعكس هذه الرؤية عليهم حزناً وألماً وفجيعة، فيجتمعون فيما بينهم للمشاركة في مأتمهم الذي أمروا بإحيائه: “أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا”، ويجتمعون لمواساة النبيّ وأهل بيته عليهم السلام اجتماع أهل المصيبة والعزاء، لباسهم لباس أهل المصيبة والحداد، وأعينهم جارية بالبكاء لذكرهم الحسين فإنّه قتيل العبرات لا يذكره مؤمن إلّا استعبر…

الإمام الصادق عليه السلام يشرح سبب اجتماع المؤمنين من أوّل محرّم عندما يُسأل: سيّدي جعلت فداك، إنّ الميّت يجلسون بالنياحة بعد موته أو قتله، وأراكم تجلسون أنتم وشيعتكم من أوّل الشهر بالمأتم ولا عزاء على الحسين عليه السلام فيقول عليه السلام: يا هذا إذا هلّ هلال محرّم نشرت الملائكة ثوب الحسين عليه السلام وهو مخرّق

من ضرب السيوف، وملطّخ بالدماء، فنراه نحن وشيعتنا بالبصيرة لا بالبصر، فتنفجر دموعنا..

ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المعزّى بولده الحسين عليه السلام، وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام ومولاتنا فاطمة عليها السلام ومولانا الحسن عليه السلام وهم حاضرون بوجودهم النورانيّ..

وعن هذا الحضور النورانيّ يروي عن أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: حضرت في مجلس الحسين عليه السلام ولمّا رجعت إلى الإمام الصادق عليه السلام سألني أين كنت يا فلان البارحة؟ يقول: ما أحببت أن أذكر له أنّي كنت في مجلس الحسين عليه السلام لأنّه يبكي بمجرّد ذكره عليه السلام، فقلت: كنت في شغلٍ بدا لي (يا مولاي)، فقال له: أكنت في مجلس الحسين البارحة؟ يقول: فما استطعت الإنكار وقلت: بلى، قال الإمام عليه السلام: أما عثرت على شيء على الباب وأنت خارج، قال: نعم ثوب مطروح أمام الباب، قال: يا فلان هذا الثوب ثوبي وربّ الكعبة، قال: سيّدي تجلس على الباب وأنتم لكم صدور المجالس، قال عليه السلام: (يا فلان) كيف أجلس في صدر المجلس وجدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وكذلك جدّي أمير المؤمنين وجدّتي فاطمة وعمّي الحسن عليهم السلام، (يا فلان) لو كشف لك

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس جلسة الحزين الكئيب واضعاً رأسه بين ركبتيه يتململ تململ السليم ويئنّ أنين السقيم باكي العين حزين القلب وكذلك جدّي أمير المؤمنين وكذلك عمّي الحسن، وأمّا جدّتي فاطمة فلو كشف لك الغطاء لرأيتها لاطمة على خدّها تنادي واولداه واحسيناه..

أَفَاطِمُ لَو خِلْتِ الحُسينَ مُجَدَّلاً               وَقَدْ مَاتَ عَطْشَانَاً بِشَطِّ فُرَاتِ

إذاً لَلَطَمْتِ الخَدَّ فَاطِمُ عِنْدَهُ                  وَأَجْرَيْتِ دَمْعَ العَيْنِ في الوَجَنَاتِ

ذاك الشخص الذي جاء ليسلب الحسين عليه السلام تكّته قال إنّه سمع هذا النداء عند جسده: وا ابناه، وا مقتولاه، وا ذبيحاه، وا حسيناه، وا غريباه! يا بني قتلوك وما عرفوك، ومن شرب الماء منعوك..

وين اليواسيني يشيعه                      على حسين وولاده ورضيعه

وابن والده عين الطليعه                   عبّاس اكفوفه الگطيعه

وين اليواسيني ابدمعته                   على ابني الذي حزوا رگبته

وظلت ثلاث تيام جثته

اويلاه يبني الما حضرته                   وما غسلت جسمه ودفنته

سيّدتي يا فاطمة، إن كنت حاضرة بروحك يوم عاشوراء إلّا أنّك لم تكوني حاضرة بجسدك، لكن ساعد الله قلب ابنتك زينب أمّ المصائب التي كانت نائبة عنك، ما حالها لمّا رأت أخاها جثّة بلا رأس؟!

خويه انعمت عيني ولا شوفك                   ذبيح ويجري من دم نحرك

وأصحابك وأهل بيتك                            ضحايا مطرّحة بقربك

عساها اتعگرت هالخيل                          ولا داست على صدرك

يَا رَسُوْلَ اللهِ يَا فَاطِمَهْ                           يَا أَمِيرَ المؤْمِنينَ المُرْتَضَى

عَظَّمَ اللهُ لَكَ الأَجْرَ بِمَنْ                          قَضَّ أَحْشَاْهُ الظَّمَى حتّى قَضَى

الليلة الثانية:مجلس الوصل إلى كربلاء

كَرْبَلا لَاْ زِلتِ كَرْبَاً وَبَلَا                  مَاْ لَقِيْ عِنْدَكِ آَلُ المُصْطَفَى

كَمْ عَلَى تُرْبِكِ لمَاَّ صُرِّعُوا               مِنْ دَمٍ سَالَ وَمِنْ دَمْعٍ جَرَى

وَضُيوفٍ لِفَلاةٍ قَفْرَةٍ                     نَزَلُوا فِيها عَلى غَيْرِ قِرَى

لَمْ يَذوقُوا المَاءَ حتّى اجْتَمَعُوا          بِحَذا السَّيفِ عَلى وَرْدِ الرَّدَى

وَوُجوهٌ كَالمَصابِيحِ فَمِنْ                قَمَرٍ غَابَ وَمِنْ نَجْمٍ هَوَى

يا رَسولَ اللهِ لَوْ عَايَنْتَهُمْ               وَهُمْ ما بِيْنَ قَتْلٍ وَسَبَى

مِنْ رَمِيضٍ يَمْنَعُ الظِّلَ وَمَنْ            عَاطِشٍ يُسْقَى أَنابِيبَ القَنا

لَرَأَتْ عَيْناكَ مِنْهُمْ مَنْظَراً               لِلْحَشَى شَجْوَاً وَلِلْعَيْنِ بُكا

لَيْسَ هَذا لِرَسولِ اللهِ يا                أُمَّةَ الطُّغْيانِ والبّغْيِ جَزَا

جَزَّرُوا جَزْرَ الأَضَاحِي نَسْلَهُ            ثُمَّ سَاقُوا أَهْلَهُ سَوْقَ الإِمَا


قَتَلُوهُ بَعْدَ عِلْمٍ مِنْهُمُ                  أَنَّهُ خَامِسُ أَصْحَابِ الكِسَا


مَيِّتٌ تَبْكِي لَهُ فَاطِمَةٌ                 وَأَبُوها وَعَلِيٌّ ذُو العُلَى

شعبي:

في الغاضرية وقف مهر الظامي احسين              اوظل عن اسمها ينشد أصحابه الطيبين

قالوا اطفوف او نينوى والغاضرية                   اوشط الفرات اوعقر يا حامي الحمية

ينصار في هاي الأرض نصبوا اخيام                 هذي منايانه ترى هيّه اتحوم أمامي

كم شاب روحه اتروح منّه القلب ظامي              كلنه نظل في هالأرض من غير تكفين

أبوذيّه:

برض الطف مهر احسين ما سار                   وكف وبوكفته لحسين ما سار

إشارة بهالأرض للحرم ما سار                     اومنها اتروح للطاغي هديّه

لمّا خرج الحسين عليه السلام من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة مرّ بمنزل يسمّى بقصر بني مقاتل، وكان ركب الإمام يسير والحرّ يسير إلى جانبه بألف فارس حيث كان عبيد الله قد أرسله ليضيّق على الحسين ويجعجع به..

فبينا القوم يسيرون إذ خفق الحسين عليه السلام بخفقة وهو على ظهر جواده، ثمّ قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين، فأقبل عليه ولده عليّ الأكبر فقال له: أبه ممَّ حمدت الله واسترجعت؟ قال: يا بنيّ، إنّي خفقت خفقة فعنَّ لي فارس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم، فقال عليّ بن الحسين: أفلسنا على الحقّ؟ قال: بلى، والذي إليه مرجع العباد، قال: أبه، إذا لا نبالي أن نموت محقّين، فقال الحسين عليه السلام: جزاك الله خير ما جزى ولداً عن والده.

وعندما وصل إلى عذيب الهجانات قال لأصحابه: من منكم يعرف الطريق على غير الجادّة؟ فقال الطرماح ابن عديّ: أنا يا بن رسول الله، فقال الحسين عليه السلام: سر على بركات الله، فأخذ الطرماح بزمام الناقة، وأنشأ يقول:

يَا نَاقَتِي لا تَجْزَعِي مِنْ زَجْرِي            وَامْضِي بِنا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ

بِخَيْرِ رُكْبَانٍ وَخَيْرِ سِفْرِي                 إِلى رَسُولِ اللهِ أَهْلِ الفَخْرِ


السَّادَةِ البِيضِ الوُجُوهِ الزُّهْرِي            الطَّاعِنينِ بِالرِّماحِ السُّمْرِي


الضَّارِبِينَ بِالسُّيوفِ البُتْرِي                يَا مَالِكَ النَّفْعِ مَعَاً وَالضُّر

أَمْدِدْ حُسِيْناً سَيِّدِي بَالنَّصْرِ                عَلَى الطُّغَاةِ مِنْ بَقَايَا الكُفْر

ولم يزل ركب الحسين عليه السلام يسير، وإذا بجواد الحسين عليه السلام قد وقف عن المسير فنزل عنه وركب جواداً غيره فلم يسر فبعثه فلم ينبعث وزجره فلم ينزجر حتّى بدّل سبعة أفراس على بعض الروايات، فالتفت إلى أصحابه وقال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: أرض الغاضريّة، قال: هل لها اسم غير هذا؟ قالوا: تسمّى نينوى… العقر…شاطىء الفرات، قال: هل لها اسم غير هذا؟ قالوا: تسمّى كربلاء، فقال عليه السلام: أرض كربٍ وبلاء، ثمّ قال: انزلوا هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تسفك دماؤنا، هاهنا والله تهتك حريمنا، هاهنا والله تقتل رجالنا، هاهنا والله تذبح أطفالنا، هاهنا والله تزار قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدّي رسول الله ولا خلف لقوله..

ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه، فوقف فسأل عنه فأخبر باسمه فقال: هاهنا محطّ ركابهم وهاهنا مهراق دمائهم.

بَيْنَما السِّبْطُ بِأَهْلِيهِ مُجِدَّاً فِي المَسير              وَإِذا الهَاتِفُ يَنْعَاهُمْ وَيْدَعُو وَيُشِير


إِنَّ قِدَّامَ مَطَايَاهُمْ مَنَايَاهُمْ تَسِير                    سَاعَةَ إِذْ وَقَفْ المُهْرُ الَّذِي تَحْتَ الحُسينْ


فَعَلَا صَهْوَةَ ثَانٍ فَأَبَى أَنْ يَرْحَلَا                    فَدَعَا فِي قَوْمِهِ يَا قَوْمُ مَا هَذِي الفَلا

قِيلَ هَذِي كَرْبَلاءٌ قَالَ كَرْبٌ وَبَلا                   خَيِّمُوا إِنَّ بِهَذِي الأَرْضِ مَلْقَى العَسْكَرَيْن

وَبِهَذِهِ تُيَتَّمُ الأَزْوَاجُ مِنْ أَزْوَاجِها                 وَبِهَذِي تَشْرَبُ الأَبِطَالُ مِنْ أَوْدَاجِها

وَتَهاوى أَنْجُمُ الإِشْرَاقِ عَنْ أَبْرِاجِها              غَائِباتٍ فِي ثَرَى البَوْغاءِ مَحْجُوبَاتِ بَيْن

وكما أخبر سيّد الشهداء عليه السلام جرت كلّ المصائب على هذه الأرض، ولذلك لمّا عاد الإمام زين العابدين عليه السلام ومعه السبايا من الشام ومرّوا على كربلاء، أوّل ما التقى بجابر بن عبد الله الأنصاريّ جعل يخبره بما جرى على تلك الأرض قائلاً: يا جابر هاهنا قتل أبو عبد الله، يا جابر هاهنا ذبحت أطفال أبي، يا جابر هاهنا والله قتلت رجالنا، وسبيت نساؤنا، وأحرقت خيامنا..

يجابر ما دريت اشصار بينه                    يجابر هالأرض بيها انولينه

يجابر وانذبح بيها ولينه                       يجابر ذبحوا واحد وسبعين


يگله والدمع فيّض الوديان                    قتل خلصوا اعمامي ابهذا المكان


ظلت بس يتامه اوجمع نسوان                اوعندي الهالفواطم عدل ما تم

شگلك يجابر مالي لسان                       على وجهين فرّن النسوان

حسبالهم بالكون وليان                        جابر يعمي ريتك تشوف

يوم الرحت للشام مكتوف                     وعماتي تتراجف من الخوف

وَالَهْفَتاهُ لِبَنَاتِ الطُّهْرِ يَوْمَ رَنَتْ              إِلى مَصَارِعِ قَتْلاهُنَّ وَالحُفَرِ

رَمَيْنَ بِالنَّفْسِ مِنْ فَوْقَ النِّياقِ عَلَى           تِلْكَ القُبُورِ بِصَوْتٍ هَائِلٍ ذَعِرِ

الليلة الثالثة: مجلس بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام

الدَّمْعُ مِنِّي لِسِبْطِ المُصْطَفَى هَمَعَا                     وَالقَلْبُ مِنِّي بِنَارِ الحُزْنِ قَدْ لَسَعا

لَمْ أَنْسَهُ مُذْ أَتَى أَرْضَ الطُّفُوفِ                       وَقَدْ حَطَّ الخِيَامَ وَحَرْبٌ جَيْشُها اجْتَمَعا

دَعَا بِصَحْبٍ كِرامٍ كَالأُسودِ إِذا                         قَامَ الهِيَاجُ وَثَارَ النَّقْعُ وَارْتَفَعا

تَرَاهُمُ فِي الوَغَى مُسْتَبْشِرينَ بِها                      وَكُلُّ فَرْدٍ بِمَوْتِ العِزِّ قَدْ طَمِعا

فَمُذْ دَعَاهُمْ إِلَهُ العَرْشِ خَالِقُهُمْ                        هَوَوْا عَلَى التُّرْبِ إِذْ دَاعِي القَضاءِ دَعا

وَظَلَّ سِبْطُ رَسولِ اللهِ بَعْدَهُمُ                          فَرْداً وَحِيداً وَمِنْهُ الدَّمْعُ قَدْ هَمَعا

فَشَدَّ فِي القَوْمِ يِحْمِي عِنْ عَقَائِلِهِ                     كَأَنَّهُ حَيْدَرُ الكَرَّارُ قَدْ طَلَعا

حتّى أُصِيبَ بِسَهْمٍ فِي حُشاشَتِهِ                      أَصَابَ قَلْبَ عَلِيٍّ وَالنَبيِّ مَعا

فَارْتَجَّتِ الأَرْضُ والسَّبْعُ الطِّبَاقُ بَكَتْ                وَالعَرْشُ قَدْ مَادَ والرُّوحُ الأَمِينُ نَعَى

لَهْفِي عَلَى زَيْنَبٍ قَدْ عَايَنَتْهُ عَلَى                     وَجْهِ الصَّعِيدِ قَتيلاً بِالعَرَى صُرِعا


الجِسْمُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصَّعِيدِ لُقىً               وَرَأْسُهُ فَوْقَ عَالِي الرُّمْحِ قَدْ رُفِعا


وَبَيْنَها حُجَّةُ الجَبَّارِ مُضْطَهَداً                    بِالقَيْدِ بَاكٍ فَدَيْتُ البَاكِيَ الوَجِعا

لَمْ أَنْسَهُ نَاظِراً رَأْسَ الشهيدِ عَلَى                رَأسِ القَناةِ وَدَمْعُ العَيْنِ قَدْ هَمَعا

شعبي:

يا عين ابكي وسحّي الدمع غدران             على المذبوح بأرض الطف عطشان

ابكي وسحي الدمع يا عين                     على أهل المجد سبعين واثنين

آه لنوحن وگضي العمر بالنوح                 واعمي عيوني واتلف الروح

اشلون الصبر وحسين مذبوح

أبوذيّه:

بقلبي مأتك يحسين ينصاب                   وذكرك من يمر الدمع ينصاب

گلبي دون گلبك ريت ينصاب                 وجسمي دون جسمك عالوطيّه
عن إمامنا الرضا عليه السلام: من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكَّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.
وعنه عليه السلام: إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمة في أمرنا.

إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام.

ثمّ قال عليه السلام: كان أبي صلوات الله عليه (يعني الإمام الكاظم عليه السلام ) إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلوات الله عليه.

ونحن في هذه المجالس نواسي أهل البيت عليهم السلام بحزننا وبكائنا وعزائنا، ونجتمع كما أمرونا وكما كانوا يجتمعون للعزاء على سيّد الشهداء عليه السلام..
نواسي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم…وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والإمام الحسن عليهم السلام..
نواسي إمامنا زين العابدين عليه السلام الذي بكى على أبيه الحسين بقيّة عمره الشريف بعد مصاب كربلاء..

لم يقدّم له طعام أو شراب إلّا بلّه بدموع عينيه ويقول: كيف آكل وكيف أشرب؟ وقد قتل أبي جائعاً وعطشاناً!!

وكان عليه السلام إذا أخذ إناءً ليشرب الماء بكى حتّى يمزجها بدموعه، فقيل له في ذلك فقال: وكيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش..

لذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الإمام زين العابدين أحد البكّائين الخمسة في التاريخ (آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمّد وعليّ بن الحسين عليهم السلام )، فقد بكى الإمام عليه السلام بقيّة حياته بعد واقعة كربلاء، وما وضع طعام إلّا بكى حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني لذلك العبرة..

يسأله أحد الموالين: يا بن رسول الله أما آن لحزنك أن

ينقضي؟ فقال له ويحك! إنّ يعقوب النبيّ عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً فغيَّب الله عنه واحداً منهم فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟!


يَا سَيِّدَ العُبَّادِ رِزْؤُكَ فَادِحٌ                     جَلَلٌ تَكَادُ لَهُ الجِبَالُ تَصَدَّعُ

فَأَبوكَ والأَهْلُونَ والأَنْصَارُ قَدْ                 أَمْسَوا وَهُمْ بِالطَّفِّ حَوْلَكَ صُرَّعُ

وكان عليه السلام كلّما اجتمع إليه جماعة، أو وفد من وفود الأقطار يردّد عليهم تلك المأساة، ويخرج إلى السوق أحياناً فإذا رأى جزّاراً يريد أن يذبح شاة أو غيرها يدنو منه ويقول: هل سقيتها الماء؟ فيقول له: نعم يا بن رسول الله إنّا لا نذبح حيواناً حتّى نسقيه ولو قليلاً من الماء، فيبكي الإمام زين العابدين عليه السلام عند ذلك ويقول: لقد ذُبح أبو عبد الله عطشاناً!!

وَيْلُ الفُراتِ أَبادَ اللهُ غَامِرَهُ                     وَرَدَّ وَارِدَهُ بِالرَّغْمِ لَهْفانا

لَمْ يُطْفِِ حَرَّ غَليلِ السِّبْطِ بَارِدُهُ                 حتّى قَضَى فِي سَبيلِ اللهِ عَطْشانا

لَمْ يُذْبَحِ الكَبْشُ حتّى يُرْوَى مِنْ ظَمَأٍ            وَيُذْبَحُ ابنُ رسولِ اللهِ ظَمْآنا

وسمع ذات يوم رجلاً ينادي في السوق: أيَها النّاس ارحموني أنا رجل غريب، فتوجَه إليه الإمام عليه السلام وقال له: لو قدّر لك أن تموت في هذه البلدة فهل تبقى بلا دفن؟ فقال الرجل: الله أكبر كيف أبقى بلا دفن وأنا رجل مسلم وبين ظهرانيَّ أمّة مسلمة؟! فبكى الإمام زين العابدين وقال: وا أسفاه عليك يا أبتاه تبقى ثلاثة أيَّام بلا دفن وأنت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..


كَأَنَّ كُلَّ مَكَانٍ كَرْبَلا لَدَى                        عَيْنِي وَكُلَّ زَمَانٍ يَوْمُ عَاشُورا

لَهْفِي لِظَامٍ عَلَى شَاطِي الفُراتِ قَضَى           ظَمْآنَ يَرْنُو لِعَذْبِ المَاءِ مَقْرَورا

إِنْ يَبْقَ مُلْقىً بِلا دَفْنٍ فَإِنَّ لَهُ                    قَبْراً بِأَحْشاءِ مَنْ وَالاهُ مَحْفُورا

ولعلّ أكثر المصائب التي أثّرت في قلبه الشريف تلك التي يذكرها لأبي حمزة الثماليّ حيث دخل عليه يوماً فرآه حزيناً كئيباً على عادة الإمام فقال له: سيّدي، ما هذا البكاء؟ أما آن لحزنك أن ينقضي، إنّ القتل لكم عادة وكرامتكم من الله الشهادة، فقال له الإمام عليه السلام: شكر الله سعيك يا أبا حمزة، كما ذكرت، إنّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة، ولكن يا أبا حمزة هل سمعت أذناك أو رأت عيناك أنّ امرأة منّا أسرت أو هتكت قبل يوم عاشوراء؟! والله يا أبا حمزة ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وذكرت فرارهنّ في البيداء من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى

خباء، والمنادي ينادي أحرقوا خيام الظالمين..


وَحَائِراتٍ أَطَارَ القَوْمُ أَعْيُنَها                      رُعْباً غَدَاةَ عَلَيْها خِدْرَها هَجَمُوا

فَغُودِرَتْ بَيْنَ أَيْدِي القَوْمِ حَاسِرَةً                 تُسْبَى وَلَيْسَ تَرَى مَنْ فِيهِ تَعْتَصِمُ

شعبي:

گلبي يبو حمزة تراهو اتفطر اوذاب              مثل المصيبه اللي دهتني محّد انصاب

ذيك الاقمار اللي ابمنازلنه يزهرون               والليل كله من العبادة ما يهجعون

سبعة اوعشرة عاينتهم كلهم اغصون             فوگ الوطية امطرّحين ابحر الاتراب

ما نكّست راسي لجل ذيك الصناديد               ما قصّروا بالغاضرية زلزلوا البيد

نكّسه الراسي ادخول زينب مجلس ايزيد         حسرى او من نوح اليتامه راسها شاب

نعم يذكر الإمام السجّاد عليه السلام الشام ومصائبهم فيها، ويحدّث ابنه الباقر عليه السلام عند سؤاله عن حمل يزيد لهم وكيفيّة دخوله على يزيد لعنه الله، ونسوتنا خلفي على بغال (من غير سرج) والفارطة خلفنا وحولنا الرماح، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح،

حتّى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت!!
ثمّ يقول عليه السلام: أوقفونا أوّلاً على باب من أبواب القصر ثلاث ساعات في طلب الإذن من يزيد، ثمّ أدخلونا عليه ونحن مربّطون بحبل واحد، وكان الحبل في عنقي وعنق عمّتي زينب وأمّ كلثوم وباقي النساء والبنات، وكلّما قصّرنا عن المشي ضربونا حتّى أدخلونا على يزيد..

قصد ظعن الحرم كوفان والشام               اوسوط الشمر منها المتن وشّام

ضمير العدو منه مات والشام                 بلا رحمة سباها الفاطمية

وَلَهْفِي لِزَيْنِ العَابِدينَ وَقَدْ سَرى              أَسِيراً عَلِيلاً لا يُفَكُّ لَهُ أَسْرُ

وآلُ رَسولِ اللهِ تُسْبَى نِساؤُهُمْ                 وَمِنْ حَوْلِهِنَّ السترُ يُهْتَكُ وَالخِدْرُ

الليلة الرابعة: مجلس الحر الرياحيّ

لَقَدْ هَاجَ فِي قَلْبِي الشَّجِيِّ غَرامُ                         لِرَكْبٍ بِجَرْعاءِ الغَنِيمِ أَقَامُوا

سَرَوا فَأَذَلْتُ الدَّمْعَ إِثْرَ مَسَيرِهِمْ                        دَماً وَالحَشَا مِنِّي عَرَاهُ سِقَامُ

أَأَحْبَابَنا هَلْ مِنَ سَبيلٍ لِوَصْلِكُمْ                           فَيَحْيَى فُؤادٌ لَجَّ فِيهِ هُيامُ

وَهَلْ نَلْتَقِي بَعْدَ الفِراقِ سُوَيْعَةً                          فَيُطْفَى مِنَ القَلْبِ الشَّجِيِّ أُوَامُ

فَيا سَعْدُ دَعَ عَنْكَ الصَّبابَةَ والهَوَى                    وَعَرِّجْ عَلَى مَنْ بِالطُّفُوفِ أَقَامُوا

وَحَيِّي كِراماً مِنْ سُلالَةِ هَاشِمٍ                          نَمَتْها إلى المَجْدِ الأَثِيلِ كِرَامُ

بِنَفْسِي أَفْدِي أُسْرَةً هَاشِمِيَّةً                            لَهَا قَدْ سَما فَوْقَ السِّماكِ مَقامُ

رَأَتْ أَنَّ دِينَ اللهِ بَيْنَ أُمَيَّةٍ                               تَلاعَبُ فَيهِ مَا تَشَاءُ طِغَامُ

فَقَامَتْ لِنَصْرِ الدِّينِ فُرسانُ غَالِبٍ                     عَلَيْها مِنَ البَأْسِ الشديدِ وِسَامُ

إلى أَنْ ثَوَوا فِي التُّرْبِ بِيْنَ مُبَضَّعٍ                     وَمُنْعَفِرٍ مِنْهُ تَطايَرَ هَامُ


فَجَاءَهُمْ سِبْطُ الرَّسولِ مُنادِياً                           أَحِبَّايَ هُبُوا فَالمَنَامُ حَرامُ


رَضِيتُمْ بَأنْ أَبْقَى وَحِيداً وَأَنتُمُ                           ضَحايا عَلَى وَجْهِ الصَّعيدِ نِيَامُ

شعبي:

تعنّاهم حسين ووگف يمهم                             لگاهم عالوطية ايسيل دمهم

سكب دمعه اعلى اهل بيته ويكلهم                   عليّ افراگكم يكرام يزحم

اشلون اعيونكم يهل الوفا اتنام                       او تسمعون الحرم لاجت بالخيام

گامت تضطرب عالگاع الاجسام                      اورادت تنهض لولا المحتم

أبوذيّه:

بالطف لهيب الشمس والحر                            ذاب اوسال دم العبد والحر

وهلال وحبيب الليث والحر                             هووا مثل النجوم اعلى الوطيّه

لم يكن الحرّ بن يزيد الرياحيّ في أفعاله وأقواله يحمل العداوة للحسين عليه السلام، بل بدا احترامه وتقديره له عليه السلام، ولذلك عندما صلّى الحسين عليه السلام بأصحابه صلّى الحرّ معه..
وعندما قال له الحسين عليه السلام: ثكلتك أمّك ما تريد؟ قال له الحرّ: يا أبا عبد الله لو أنّ غيرك من العرب يقولها لي لأجبته وما تركت ذكر أمّه بالثكل كائناً من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما أقدر عليه..

وقد كان الحرّ فيمن سبقت له من الله الحسنى، وإن كان في ظاهر الحال وقبل وروده إلى كربلاء ليس منهم..

ولذلك عندما وجّهه عبيد الله بن زياد إلى الحسين عليه السلام قال الحرّ: خرجت من القصر- يعني قصر ابن زياد- فنوديت من خلفي: أبشر يا حرّ بخير، فالتفتّ فلم أرَ أحداً، فقلت: والله ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين عليه السلام.

ومن هنا عندما تكامل جيش عمر بن سعد وعرف الحرّ عزم القوم على القتال، تنحّى عنهم وجعل يدنو من الحسين قليلاً قليلاً وهو يرتعد ويرتجف، فاستنكر عليه رجل كان بقربه واعتقد أنّه يرتجف من خوف القتال، قائلاً له: لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحرّ: إنّي

والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطِّعت وحُرِقت.
وكان مع الحرّ ابنه، فخاطبه قائلاً بني لا طاقة لي على العار ولا على غضب الجبّار، فقال وما ذاك يا أبه؟ قال: يا بني أما تسمع صوت ابن بنت رسول الله يطلب الناصر والمعين، بني هلمَّ بنا إليه.

ثمّ ضرب فرسه ولحقه ولده وتوجّه نحو الحسين مطأطئ الرأس منكسراً وقَلَبَ ترسه على ظهره وهو يقول: اللهمّ إليك تبت فتب عليّ، فلمّا دنا من الحسين عليه السلام صاح: السلام عليك يا أبا عبد الله السلام عليك يا بن رسول الله، فأجابه الحسين عليه السلام: وعليك السلام، ارفع رأسك من أنت؟ قال: سيّدي أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، أنا الحرّ، والله يا سيّدي ما كنت أظنّ أنّ القوم يبلغون بك إلى ما أرى، وأنا الآن تائب نادم، فهل لي من توبة؟ فقال له الحسين عليه السلام: نعم إن تبت يتوب الله عليك، انزل يغفر الله لك.

فقال الحرّ: سيّدي أنا لك فارساً خير منّي راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري، يا بن رسول الله كنت

أوّل خارج عليك فائذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك -يعني من ذلك الوقت-، وأوّل من يصافح جدّك غداً فقال له الحسين عليه السلام: فاصنع رحمك الله ما بدا لك، فتقدّم الحرّ للقتال متوجّهاً نحو الأعداء، وعظهم وحذّرهم ونصحهم فلم ينفع النصح، فجرّد سيفه وحمل عليهم يقاتلهم وهو يقول:


إِنِّي أنا الحُرُّ وَمَأْوَى الضَّيْفِ                     أَضْرِبُ فِي أَعْناقِكُمْ بِالسيفِ

عِنْ خَيْرِ مَنْ حَلَّ بِأَرْضِ الخَيْفِ                  أَضْرِبُكُمْ ولا أَرَى مِنْ حَيْفِ

فما زال يقاتلهم حتّى أكثر فيهم القتلى، وعقروا فرسه فجعل يقاتل راجلاً، فحملوا عليه وتكاثروا حتّى أردوه إلى الأرض صريعاً، فصاح: السلام عليك يا أبا عبد الله سيّدي أدركني!

فمشى إليه الحسين عليه السلام، وفي رواية: احتمله أصحاب الحسين عليه السلام حتّى وضعوه بين يديه، وكان به رمق، فجعل الإمام يمسح التراب عن وجهه (هنيئاً لك يا حرّ هذه الشهادة)، وهو يقول: أنت حرٌّ كما سمّتك أمّك، حرٌّ في الدنيا وسعيد في الآخرة، ثمّ أنشأ عليه السلام يقول:- وفي رواية أنّ هذه الأبيات لعليّ بن الحسين عليه السلام -:

لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بَني رِياحِ                            صَبورٌ عِنْدَ مُشْتَبَكِ الرِّماحِ

وَنِعْمَ الحُرُّ إذْ وَاسَى حُسَيْناً                        وَجَادَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّبَاحِ

اجاه احسين شبه الليث يهدر                      يگله ودمع العين اعليه ينثر


أمك ما خطت من سمتك حر                       مسح عنه التراب وصاح يا ويل

وهكذا كان يصنع الإمام الحسين عليه السلام مع كلّ شهيد يسقط من أصحابه، وكلّما توجّه واحد من الأصحاب يودّع الحسين عليه السلام، قائلاً: السلام عليك يا بن رسول الله فيجيبه الحسين عليه السلام: وعليك السلام، ونحن خلفك، ويقرأ قوله تعالى:﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، حتّى قضوا عن آخرهم..

أّدْرَكُوا بِالحُسيْنِ أَكْبَرَ عِيدٍ                          فَغَدَوا فِي مِنَى الطُّفُوفِ أَضَاحِي

لَبِسُوا القُلوبَ عَلَى الدُّرُوعِ وَأَقْبَلُوا               يَتَهَافَتُونَ عَلَى ذِهابِ الأَنْفُسِ

نَصَرُوا الحُسَينَ فَيا لَهَا مِنْ فِتْيَةٍ                  عَافُوا الحَياةَ وَأُلبِسُوا مِنْ سُنْدُسِ

وقف أمامهم يستنهضهم، ينظر يميناً وشمالاً، فلا يرى من أنصاره إلّا من صافح التراب جبينه وقطع الحمام أنينه، فنادى: يا أبطال الصفا ويا فرسان الهيجاء، ما لي أناديكم فلا تجيبون، وأدعوكم فلا تسمعون، أأنتم نيام أرجوكم تنتبهون، أم حالت مودّتكم عن إمامكم فلا تنصروه؟ هذه نساء الرسول لفقدكم قد

علاهن النحول، فقوموا عن نومتكم أيّها الكرام، وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام، ولكن صرعكم والله ريب المنون، وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلّا لما كنتم عن نصرتي تقصّرون..
ثمّ نادى بصوت حزين يقطّع القلوب:

يا حبيب بن مظاهر، ويا زهير بن القين، ويا هلال بن نافع، ويا مسلم بن عوسجة، ويا حرّ الرياحيّ، ويا فلان، ويا فلان..

يهل الشيم هذا محلكم                         وللمعركة نذخر هممكم

شنهو العذر يكرام منكم                      تخلّون بالذلة حرمكم

اشلون عيونكم يهل الوفا اتنام             او تسمعون الحرم لاجت بالخيام

كامت تضطرب عالگاع الاجسام           اورادت تنتهض لولا المحتم

بعد هيهات دهري بيكم ايعود                ورد اشيل راسي بيكم اردود

اوترد اكفوف ابو فاضل للزنود             وتتلايم النوب اجروح الاكبر


لَمَّا رَأَى السِّبْطُ أَصْحَابَ الوَفا قُتِلُوا                نَادَى أبَا الفَضْلِ أَيْنَ الفَارِسُ البَطَلُ


وَأَيْنَ مَنْ دُونيَ الأَرْواحَ قَدْ بَذَلُوا                   بِالأَمْسِ كَانُوا مَعِي وَاليَومَ قَدْ رَحَلُوا

وَخَلَّفُوا فِي سُوَيْدا القَلْبِ نِيرَانا

الليلة الخامسة: مجلس مسلم بن عقيل

قَدْ خَاضَ بَحْرَ المَوْتِ فِي حَمَلاتهِ                      وَعُبَابُهُ بِصِفاحِهِمْ مُتلاطِمُ

وَتَراهُ طَلَّاعَ الثَنايَا فِي الوَغَى                         تَبْكِي العِدَى وَالثَغرُ مِنهُ بَاسِمُ

قَدْ آمَنَتْهُ وَلا أَمانَ لِغَدْرِها                              فَبَدَتْ لَهُ مِمَّا تُجِنُّ عَلائِمُ

سَلَبَتْهُ لامَةَ حَرْبِهِ ثُمَّ اغْتَدَى                           مُتَأَمِّراً فِيهِ ظَلُومٌ غَاشِـمُ

أَسَرَتهُ مُلْتَهِبَ الفُؤادِ مِنْ الظَّما                       وَلَهُ عَلَى الوَجَناتِ دَمْعٌ سَاجِمُ

لَمْ يَبْكِ مِنْ خَوْفٍ عَلَى نَفَسٍ لَهُ                       لَكِنَّهُ أَبْكاهُ رَكْبٌ قَادِمُ

يَبْكِي حُسَيْناً أَنْ يُلاقيَ ما لَقَى                        مِنْ غَدْرِهِمْ فَتُباحُ مِنهُ مَحارِمُ

فَرَمَتْهُ مَكْتُوفاً مِنَ القَصْرِ الَّذي                       قَامَتْ عَلَى الطُّغْيانِ مِنهُ قَوَائِمُ

وَا لَهْفَتَاهُ لِمُسْلِمٍ يُرْمَى مِنَ الـ                        ـقَصْرِ المَشُومِ وَليسَ يَحْنُو رَاحِمُ


َيُجَرُّ فِي الأَسْواقِ جَهْراً جِسْمُ مَن                     تُنْمِيهِ لِلشَّرَفِ الصُّرَاحِ ضَرَاغِمُ


قَدْ هَدَّ مَقْتَلُهُ الحُسينَ فَأَسْبَلَ الـ                       ـعَبَرَاتِ وَهُوَ لَدَى المُلِمَّةِ كَاظِمُ


أبوذية:

مسلم من وگع والسيف طرفاه                        على احـسيـن أبو اليمة ايدير طــرفاه

ينظـر يمينَـه ويسـراه طــرفاه                         اوينادي لا تجي يبن الزكية

عمـل كوفان هدّ حيلي وهـاني                         ولا مشربـي صنعه طيّب وهاني

يــا وسفه رجل مسلم وهـاني                          بحبل بالسوق جرّوهم سويّه

ولدها والأخ لأخيه يقولون ما لنا والدخول بين السلاطين! (ما لنا والدخول في السياسة).عن ابن عبّاس، قال: قال عليّ عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، إنّك لتحبّ عقيلاً؟ قال: إي والله إنّي لأحبّه حبّين: حبّاً له، وحبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولده لمقتول في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون. ثمّ بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال: إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي.
وفعلاً إنَّ مصيبة مسلم مصيبة أليمة ومحرقة للقلوب، خاصّةً وأنّه أقبل إلى الكوفة وهو العزيز عند أهل البيت عليهم السلام وسفير الحسين وممثّله خاصّة، وقد بايعه أكثر من ثمانية عشر ألفاً، كلّهم يقرأون كتاب الحسين عليه السلام ويضعون على أعينهم ثمّ سرعان ما خذلوا مسلم وضيّعوا بيعتهم

وَقَدْ خَذَلُوهُ وَقَدْ أَسْلَمُوه                      وَغَدْرَتُهُمْ لَمْ تَزَلْ وَاضِحَه

فَيا بْنَ عَقيلٍ فَدَتْكَ النُّفوس                  لِعِظْمِ رَزِيَّتِكَ الفَادِحَه

لِنَبْكِ لِهَا بِمَذابَ القُلوب                      فَمَا قَدْرُ أَدْمُعِنا المَالِحَه

بَكَتْكَ دَماً يا ابنَ عَمِّ الحُسين                مَدَامِعُ شِيعَتِكَ السَّافِحَه

وَلا بَرِحَتْ هَاطِلاتُ العُيون                  تُحَيِّيكَ غَادِيَةً رَائِحَه

فما أن دخل ابن زياد لعنه الله الكوفة وهدّد أهلها ورغّب مناصريه حتّى تفرّق النّاس عن مسلم، كان يأتي الأب إلى ابنه والأمّ إلى

انفضّوا عن مسلم وتفرّقوا حتّى توجّه في مجموعة كبيرة إلى المسجد في الكوفة وصلّى المغرب فتفرّقوا بعد الصلاة وما بقي إلّا عشرة أشخاص. خرج مسلم من المسجد وإذا بهم تفرّقوا جميعاً ولم يبقَ معه شخص واحد يدلّه على الطريق وهو الغريب في تلك البلاد. لتتصوّروا هذه الغربة والمظلوميّة لمسلم، وهو القائد والعظيم، ولا يدري أين يذهب حتّى وصل إلى باب دار امرأة يُقال لها: طوعة، (كانت واقفة تنتظر ابناً لها خرج مع النّاس)، فسلّم عليها، وردّت السلام، فسألها شربة من الماء فأتت له بالماء وشرب وحمد الله. ثمّ دخلت المرأة إلى بيتها وخرجت فرأت مسلماً ما زال واقفاً على باب الدار، فقالت له: يا عبد الله ألم تشرب الماء؟ قال: بلى، فقالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت مسلم، ثمّ أعادت القول ثانيةً فلم يردّ عليها. تأمّلَت هذه المرأة الصالحة بمسلم رأيت عليه مهابة الإيمان والتقوى وسيماء الصالحين، فكلّمته بهذا العنوان وقالت: أصلحك الله يا عبد الله لا يصلح لك الوقوف على باب داري ولا أحلَّه لك، فقال لها: أمة الله مالي في هذا المِصر أهل ولا عشيرة فهل لكِ أجر ومعروف أن تضيفيني سواد هذه الليلة،

ولعلّي مكافئكِ يوم القيامة! قالت: ومن أنتَ حتّى تكافئني يوم القيامة؟ قال: أنا مسلم ابن عقيل غدر بي أهل مصركم هذا وبقيت وحيداً فريداً (وامسلماه واسيّداه واغريباه).
(ويلي) يگلها وعينه مستديرة                         لا أهل عندي ولا عشيرة

غريب وعمامي بغير ديرة                              ومثل حيرتي ما جرت حيرة

أنا مسلم الفاقد نصيرة

فقالت له: أنت مسلم ابن عقيل (أنت ابن عمّ الحسين) أدخل سيّدي فداك أبي وأمّي..

أنه مسلم وعندك ضيف هالليل                         فرحت طوعة ومنها الدمع هليل

على رحب وسعه والوجه هاليل                        بسرور اتفضل ومنّه عليّه

هنيئاً لهذه المرأة الصالحة بهذا الشرف العظيم، أدخلته إلى بيتها قدّمت له العشاء أبى أن يأكل وبقى تلك الليلة قائماً راكعاً ساجداً قارئاً للقرآن ذاكراً لله تعالى. وهوّدت عيناه قبل الفجر فرأى عمّه أمير المؤمنين عليه السلام يقول له: يا مسلم الوحى الوحى، العجل العجل (فعلم أنّه الفراق وأنّها آخر ليلة له من الدنيا) فقام وصلّى

الفجر وما شاء من النفل، وبينما هو كذلك وإذا بِخَيْل ابن زياد (لع) تقتحم عليه، فلبس لامة الحرب، وشدّ على الفرسان والخيل والرجال بكلّ بأسٍ وشجاعة كالأسد الغضبان وهو يقول: يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس له من محيص، حتّى أخرجهم من الدار، ثمّ عادوا، فحمل عليهم وهو يقاتلهم وهم سبعون فارساً وراجلاً يحاصروه فيردّهم قائلاً:


هُوَ المَوْتُ فَاصْنَعْ وَيْكَ مَا أَنتَ صَانِعُ                  فَأَنْتَ بِكَأسِ المَوْتِ لا شَكَّ جَارِعُ

فَصَبْراً لِأَمرِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ                              فَحُكْمُ قَضاءِ اللهِ فِي الخَلْقِ ذَائِعُ

فأكثر القتل فيهم وأراهم بأساً لم يُشهد مثله إلّا بأس عمّه أمير المؤمنين.. حتّى طلب قائد الكتيبة (محمّد بن الأشعث (لع)) المدد والنجدة من ابن زياد (لع) فوبّخه لضعفه وضعف أصحابه أمام رجل وحيد فأجابه أنّه أسدٌ ضرغام وبطل همام من آل الرسول الكرام…

فمدّه بالسلاح والرجال، ولم يزل مسلم يقاتلهم حتّى أثخِنَ بالجراح لأنّهم احتوشوه من كلّ جانب ومكان، ففرقة ترميه من أعالي السطوح بالنّار والحجارة، وفرقة بالرّماح وفرقة بالسِّهام، وأخرى بالسُّيوف، وهذا وقد ضربوه على فمه الطاهر فقطعت شفته العليا، ووقف ليستريح (رضوان الله عليه)، فقال له ابن الأشعث
(لعنه الله): لك الأمان يا مسلم لا تقتل نفسك. فقال: أيّ أمان للغدرة الفجرة. وأقبل يقاتلهم وهو يقول:


أَقْسَمْتُ لا أُقْتَلُ إلّا حُرّاً               وَإنْ رَأَيْتُ المَوْتَ شَيئاً نُكْراً

كُلُّ امْرِىءٍ يَوْماً مُلَاقٍ شَرّاً          هَيْهَاتَ أَنْ أُخْدَعَ أوْ أُغَرَّا

فقاتل حتّى أكثروا فيه الجراحات وعجز عن القتال، فأسند ظهره إلى جنب جدار فضربوه بالسهام والأحجار، فقال: ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفّار؟ وأنا من أهل بيت النبيّ الأبرار، ألا ترعون رسول الله في عترته…

عند ذلك ضربه رجل من خلفه بعمود من حديد على رأسه، وقيل طعنه برمحٍ فخرّ إلى الأرضِ صريعاً، وقيل: حفروا له حفرة فوقع فيها، مثخناً بجراحاته، فتكاثروا عليه بين من يطعنه برمحه وبين من يضربه بسيفه، حتّى أخذوه إلى عبيد الله ابن زياد – آجركم الله- أركبوه على بغلةٍ مجرّداً من سيفه موثوقاً كتافاً، فجعل مسلم يبكي، فقال له رجل: – جئت تطلب أمراً عظيماً- وإنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل ما نزل بك لا يبكي، فقال: والله ما لنفسي بكيت، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عينٍ تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين، أبكي للحسين وآل الحسين.


سَلَبَتْهُ لامَةَ حَرْبِهِ ثُمَّ اغْتَدَى                    مُتَأمِّراً فِيهِ ظَلومٌ غَاشِمُ 


رَأَتْهُ مُلْتَهِبَ الفُؤادِ مِنْ الظَّما                  وَلَهُ عَلَى الوَجَناتِ دَمْعٌ سَاجِمُ

لَمْ يَبْكِ مِنْ خَوْفٍ عَلَى نَفْسٍ                    لَكِنَّهُ أَبْكَاهُ رَكْبٌ قَادِمُ

يَبْكِي حُسَيْناً أَنْ يُلاقِي مَا لَقِي                  مِنْ غَدْرِهِمْ فَتُباحُ مِنهُ مَحارِمُ

وين الذي يوصل بهل حين                    لرض المدينة ويخبر حسين

مسلم وحيد وماله معين                        دارت عليه القوم صوبين

كتفوه وظل ايدير بالعين

ثلاث مرّات مسلم ذكر الحسين عليه السلام وواساه وسلّم عليه قبل شهادته، كانت هذه المرّة الأولى، والمرّة الثانية حينما جاؤوا به إلى قصر الإمارة، أراد أن يشرب من قلّة فيها ماء باردة موضوعة على باب القصر، وكان في أشدّ وغاية الظمأ لكنّه منعه لئيم من الشرب منها، حتّى رقَّ لحاله أحدهم وجيء إليه بقدح فيه ماءً ومعه كأس، فصبّ فيه ليشرب وأدناه من فمه وإذا بالكأس يمتلىء دماً، فرمى مسلم ذلك الماء، ثمّ صبّ الماء ثانية ولم يقدر أن يشرب، ثمّ أراد أن يشرب ثالثةً وإذا بثناياه سقطت في القدح..

فقال: الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته (نعم واسى
الحسين في شهادته فأبى أن يموت إلّا ظمآناً كسيّد الشهداء).


كَأَنَّما نَفْسُكَ اختَارَتْ لَهَا عَطَشَاً                   لَمَّا دَرَتْ أَنْ سَيَقْضِي السِّبْطُ عَطْشَانا

فَلَمْ تُطِقْ أنْ تَسِيغَ الماءَ عَنْ ظَمَأٍ                 مِنْ ضَرْبَةٍ سَائِقُها بَكْرُ ابنُ حَمْرَانا

صَعد للقصر والقوم وياه                         طلب ماي اليطفي جمرة احشاه

سقوه وبالقدح سِقطت ثناياه                     وما سلّم على ابن زياد بالحسين

والمرّة الثالثة التي ذكر فيها مسلم الحسين وسلّم عليه مودِّعاً حينما صعدوا به إلى أعلى قصر الإمارة وجراحاته تنزف والعطش قد أخذ به وهو يذكر الله (بعد أن جرى بينه وبين ابن زياد (لع) محاورة قاسية حيث لم يسلّم فيه مسلم على ابن زياد (لع) وردّ عليه شتمه لعليّ والحسن والحسين عليهم السلام قائلاً: أنت وأبوك أحقّ بالشتم فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله). ولمّا رأى مسلم السيف مشهوراً استمهلهم ليصلّي، فصلّى ركعتين وقال: اللهمّ احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وخذلونا وكذّبونا، وتوجّه نحو المدينة وصاح: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا ابن رسول الله.

(آه) صعدوا بمسلم والدمع يجري من العين              توجه بوجهه للحجاز يخاطب حسين

يحسين أنا مقتول ردوا لا تجوني                         خانوا أهل كوفة عگب ما بايعوني


وللكافر ابن زياد كلهم سلموني               مفرد وانتوا يا هلي عني بعيدين

وبينما النّاس قد اجتمعوا حول القصر فمنهم من يقول عن مسلم يقتلونه، ومنهم من يقول يسوقونه إلى الشام، ومنهم من يظنّ أنّه يحبس حتّى يأتي الخبر من الشام- يا مؤمنون- عظّم الله لكم الأجر وإذا بجثّة مسلم تهوى من أعلى قصر الإمارة بلا رأس، ثمّ يتبعها رأسه الشريف- رحم الله المنادي: وامسلماه واسيّداه… (ثمّ ربطوا رجله بالحبال وكذلك فعلوا بهاني ابن عروه (رضوان الله عليه) بعد أن قتلوه وجرّوهما في أزقة الكوفة وشوارعها)

صاح الدعي ابن زياد فيهم لا تمِهلوه              بالعجل من القصر للگاع ذبوه

گطعوا كريمه والجسد بالسوق سحبوه             بالحبل ما بين الملا وا فجعة الدين

فّإنْ كُنْتِ لا تَدْرينَ مَا المَوْتُ فَانْظُرِي               إلى هَانىءٍ بِالسُّوقِ وابنِ عَقيلِ

إلى بَطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَهُ                     وَآخَرَ يَهْوِي مِنْ طِمارِ قَتيلِ

رَبَطُوا بِرِجْلَيْهِ الحِبالَ وَمَثَّلُوا                        فِيهِ فَلَيْتَ أَصَابَنِي التَّمْثِيلُ

الليلة السادسة: مجلس أصحاب الحسين عليه السلام

مَشَوا إلى الحَرْبِ مَشْيَ الضَّارياتِ لهَا                   فَصَارَعُوا المَوْتَ فِيها وَالقَنا أَجَمُ

وَخائِضِينَ غِمَارَ المَوْتِ طَافِحَةً                          أَمْواجُها البِيضُ فِي الهَاماتِ تَلْتَطِمُ

وَلا غَضَاضَةَ يَوْمَ الطَّفِّ إنْ قُتِلُوا                        صَبْراً بِهَيْجاءَ لِمْ تَثْبُتْ لَهُمْ قَدَمُ

أَفْناهُمُ صَبْرُهُمْ تَحْتَ الضَّبا كَرَماً                         حَتَّى مَضَوْا وَرِداهُمُ مِلْؤُهُ كَرَمُ

سَقْياً لِثاوِينَ لَمْ تُبلِلْ مَضَاجِعَهُم                          إلّا الدِّماءُ وإلَّا الأَدْمُعُ السُّجُمُ

مُوَسَّدِينَ عَلَى الرَّمْضاءِ تَنْظُرُهُم                          حَرَّى القُلُوبِ عَلَى وَرْدِ الرَّدَى ازْدَحَمُوا

أَبْكِيهمُ لِعَوَادِي الخَيْلِ إنْ رَكِبَتْ                           رُؤوسُها لَمْ يُكَفْكِفْ عَزْمَها الَّلحْمُ

وَحائِراتٍ أَطارَ القَوْمُ أَعْيُنَها                             رُعْباً غَدَاةَ عَلَيْها خِدْرَها هَجَمُوا

كَانَتْ بِحَيْثُ عَلَيْها قَوْمُها ضَرَبَتْ                         سُرادِقاً أَرْضُهُ مِنْ عِزِّهِمْ حَرَمُ

يَكَادُ مِنْ هَيْبَةٍ أنْ لا يَطُوفَ بِهِ                            حَتَّى المَلائِكُ لَوْلا أَنَّهُمْ خَدَمُ

فَغُودِرَتْ بَيْنَ أَيْدِي القَوْمِ حَاسِرَةً                          تُسْبَى وَلَيْسَ مَنْ فِيهِ تَعْتَصِمُ

نَعَمْ لَوَتْ جِيدَها بِالعَتْبِ هَاتِفَةً                             قَوْمَها وَحَشاها مِلؤُهُ ضَرَمُ


شعبي:


من گال بالله ننسبي ويحدي ابظعنَّه                      زجر وخوّله والشمر من عگب أهلنه

هاي الهظيمة واحنه سيد الكون جدّنا                    اومنّه الزكيه فاطمة الخادمها جبريل

الله يا هاي المصيبة الموعله البال                       عگب الخدر تالي يساره فوگ الجمال

والحرم عالوليان تبكي ابدمع همّال                       حقها مشت عنهم اوخلَّتهم مگاتيل

واشحالها التمشي او تعوف اجسوم أهلها               صرعى عرايا ابلا دفن والدم غسلها

واعلى النهر مطروح ذاك اللي كفلها                     وحسين ما خلّت صلح بين سالم الخيل

أبوذيّة:

زجر كل ساع يزجرني وأنا صيح                        أبد ما شفت راحم وأنا صيح

لون حاضر يخوي وأنا صيح                            أبد ما كان جسر واحد عليّه
ورد عن الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية الشريفة، وهو يزور أنصار الحسين وأصحابه الشهداء معه:
“السلام عليكم يا خير أنصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، بوَّأكم الله مبوّأ الأبرار، أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء، ومَهّد لكم الوطاء، وأجزل لكم العطاء، وكنتم عن الحقّ غير بطاء، وأنتم لنا فرطاء، ونحن لكم خلطاء، في دار البقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.

هؤلاء الصفوة من أولياء الله الذي لم يسبقهم سابق ولم يلحق بهم لاحق اختارهم الله لنصرة دينه، لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، معروفون بأسمائهم من قبل شهودهم، كما يقول ابن عبّاس في حقّ أصحاب الحسين، وكما يعبّر عنهم محمّد ابن الحنفيّة (رض): “وإنَّ أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم”، ويكفيهم فخراً شهادة الإمام الحسين بحقّهم عندما قال: “.. إنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي”… وقد ذكرهم أمير المؤمنين عليه السلام حين مرَّ بكربلاء وصار بمصارع الشهداء: “… مناخ ركاب ومصارع شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم”. بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادتهم وفوزهم بأعلى الدرجات، حين ذكر لولده الحسين عليه السلام مصرعه في كربلاء: “… ويستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ


الحديد، وتلا:
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً…”.
ولذلك وصفهم الإمام الحسين عليه السلام لأخته الحوراء زينب عليها السلام كما قال: “أما والله لقد نهرتهم وبلوتهم، وليس فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني، استئناس الطفل بلبن أمّه”، وعندما أذن لهم سيّد الشهداء عليه السلام بالانصراف والانطلاق وجعلهم في حلٍّ منه، كان الواحد منهم يقول: قبّح الله العيش بعدك… أما والله! لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيى ثمّ أحرق ثمّ أذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً…

ولذلك استحقّوا أن يكشف الحسين عليه السلام عن أبصارهم ليلة عاشوراء، ويريهم منازلهم في الجنّة، ويبيتوا معه تلك الليلة في العبادة ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكعٍ وساجد وقائمٍ وقاعد… ومن أصحاب الحسين عليه السلام الذين كانت لهم تلك الكرامة ونالوا أعلى الرتب، وأدركوا سيّد الشهداء في اليوم العاشر من المحرّم ولم يتأخّروا عن موعد شهادتهم المباركة ونصرتهم المؤيّدة:

سعيد ابن مرّة التميميّ: كان من أهل البصرة حيث كاتب الحسين أشرافها ورؤسائها ودعاهم إلى نصرته فأجابه من أجابه

ولكن الكثيرين منهم فاتتهم نصرة الحسين عليه السلام والشهادة بين يديه، حيث خرجوا من البصرة متّجهين إلى الحسين عليه السلام فوافاهم خبر مقتله في بعض الطريق، فرجعوا خائبين من نصرته، وأمّا الّذين سُعِدوا ورُزِقوا الشهادة منهم فهم ستّة – كما ذكرهم أهل المقاتل- أوّلهم عبدالله الفقعسيّ وكان شيخاً كبيراً طاعناً في السنّ، وولده أربعة منهم، والسادس هو سعيد ابن مرّة التميميّ. فهذا الرجل سعيد كان شابّاً -حديث الزواج- له من العمر تسعة عشر سنة. لمّا سمع بأنّ الحسين عليه السلام يستنصر أشراف أهل البصرة في كتبه، أقبل إلى أمِّه في صبيحة عرسه ولم يلتفت إلى فراشه الجديد وزينة عرسه وما حوله ممّا يعلّقه بالدنيا، توجّه مباشرة إلى أمّه صائحاً: أمَّاه عليَّ بلامة حربي وفرسي، فقالت له: ما لك تنادي يا نور عيني، وما تصنع بها؟ قال: أمَّاه قد ضاق صدري وأريد أن أمضي إلى خارج البساتين، فقالت له: ولدي إنطلق إلى دارك وزوجتك ولاطفها، فقال: يا أمّاه لا يسعني ذلك، وبينما هما كذلك إذ أقبلت زوجته وقالت له: إلى أين تريد يا ابن العمّ؟ فقال لها: أنا ماضٍ إلى من هو خيرٌ منّي ومنك، فقالت: ومن هو خيرٌ منك ومنّي؟ فقال لها: سيّدي ومولاي الحسين ابن عليّ  عليهما السلام (الحسين يطلب النصرة وأنا أقعد عن نصرته؟!) سار قليلاً، عندها بكت أمّه وكذلك زوجته، وانطلق سعيد حاملاً

لامة حربه متوجّهاً إلى فرسه، سار قليلاً، وإذا بأمِّه تناديه: بني سعيد قف لي هنيئة فوقف سعيد، فجاءت إليه أمّه، قالت: ولدي جزاك الله عن الحسين خيراً (لكن عندي وصيّة إليك، ما هي يا أمّاه) بني حملتُك في بطني تسعة أشهر (سهرت عليك الليالي وفي تربيتك) فقال: بلى يا أمّاه، قالت: بني فاذكرني عند فاطمة الزهراء يوم القيامة.. بني إذا أدركت سيّد شباب أهل الجنّة أقرئه عنّي السلام، وقل له: فليشفع لي يوم القيامة.


أوصيك يبني او يا بعد عيني بوصيّه                    خلّها عله بالك من تصل لبن الزجية

گله أمي اتسلِّم عليك اهواي هيّه                         واتگول أريد هناك ابتشفعلي الحسين

ناداها يمّه او يا لسهرتي الليل برباي                   آخذ سلامك لو رحت لحسين ويّاي

گالتله يبني او ما أكلفك غير بس هاي                  أدّي وصيتي يا عزيز الروح والعين

فقال لها: يا أمّاه وأنا أوصيكِ بوصيّه؟ ما هي نور عيني؟ قال: إذا رأيتِ شابّاً لم يتهنَّأ بشبابه وعريساً لم يتهنَّأ بعرسه اذكري عرسي وشبابي.

گلها وصيتك راح اخبر احسين بيها                     اوعندي وصيّه وارد أكلفنك عليها


لو شفتي مثلي شاب وامّه اعليه بّكيها                  ذكري شبابي او عرسي يمّه او موش تنسي


والعيد لو بيّن او هل مصباح يومه                      والشاب لو شفتي لبس زينة اهدومه

هم اذكريني وشبِّهي ارسومي ارسومه                  وابكي الشبابي يمّه من تردين تبكين

انطلق سعيد خارجاً من البصرة يجدّ السير في الليل والنهار واستخبر ببعض الطرق أنّ الحسين قد نزل كربلاء، فتوجّه مسرعاً حتّى وصل أرض كربلاء يوم عاشوراء بعد الظهر، نظر إلى جهةٍ وإذا جيوش وعساكر وسواد متراكم، ونظر إلى جهةٍ ثانية وإذا خيام قليلة ليس حولها رجال ولا أعوان، قال: أظنّ أنَّ هذه الخيام القليلة هي خيام الحسين، ولكن يخاف أن يُقبض عليه، فدنا من مخيّم الحسين قليلاً قليلاً حتّى وقف بالقرب منها، وصاح بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل البيوت، فخرجت العقيلة زينب سلام الله عليها فقالت: وعليك السلام من أنت أيُّها المسلِّم علينا في هذا اليوم؟ قال: أوّلاً أمة الله أخبريني من أنتِ؟ فعرّفته عن نفسها، السلام عليكِ يا زينب الكبرى.

أنا زينب ليحكون عني                        سليت المصايب ما سلمني


نِزْلَن على عيوني وعِمَنّي                     ماني تمرمرت من صغر سني

قال: سيّدتي أنا سعيد ابن مرّة جئت من البصرة لنصرة سيّدي ومولاي الإمام الحسين عليه السلام، قالت عليها السلام: يا سعيد، إن كنت كذلك فذاك سيّدك الإمام الحسين وحيداً فريداً يطلب الناصر. فأقبل سعيد إلى الميدان وهو ينادي لبّيك لبّيك سيّدي أبا عبدالله، لبّيك أبا عبدالله، لمّا رآه الحسين عليه السلام قال: يا سعيد مرحباً بك، ما قالت لك أمّك؟

گالتلي أمي او تهمل العين                    يوليدي حين التوصل احسين

بلغه سلامي ابن الطيّبين                      وقبّل أقدامه وقبّل الكفّين

اوسلّملي يبني اعله الخواتين                اوذبّ دونه اوحامي الصواوين

قال: سيّدي، أمّي تقرؤك السلام. فقال: عليك وعليها السلام، وبشَّره أنَّ أمّه في الجنّة (هنيئاً لهم)، ثمّ قال له الحسين: (يا سعيد) خذ سيفك ودافع عن بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

آه وصيت بينا قبل التنامون                     وقبلن على الغبرة تنامون


أنا منين اجيتني كربلا منين                     لا عبّاس يبرالي ولا احسين

لذلك سعيد عاد وسلّم على بنات الرسالة، رجع فحمل على القوم وصار يقاتل حتّى قتل جمعاً كثيراً، حتّى أردوه صريعاً.

ويلي قضوا حق لعليهم دون الخيام              ولا خلوا خوات حسين تنضام

لما طاحوا تفايض منهم الهام                    تهاووا مثل مهوى النجم من خرّ

ولمّا قُتِل سعيد مشى لمصرعه الحسين، فجلس عنده، وأخذ رأسه وضعه في حجره وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه قائلاً: أنت سعيد كما سمّتك أمّك سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة.

من طاح اعتناله وقعد يمّه                        خذه راسه ابحضنه ومسح دمّه

دنيه او آخره ايگله أبو اليمه                    سعيد وبالإسم ما خابت امك

يحسّ دمّه اويگله ابن الزجية                    سعيد السمتك ما خطت هيّه

عفت عرسك اولاگيت المنيّه                      واعله حنّت اجفوفك سال دمك

وكان الإمام الحسين هكذا كلّما استشهد واحد من الأصحاب يقف عند مصرعه ويؤبّنه بكلمة أو بآية من القرآن، ولكن من الذي وقف على الحسين عليه السلام عندما سقط عن ظهر جواده إلى الأرض؟ نعم وقفت عليه الأعداء وهي تنوشه (ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالسهام، ورضخاً بالحجارة والخشبة).
قَتَلُوهُ يَوْمَ الطَّفِّ طَعْناً بِالقَنا                         وَبِكُلِّ أَبْيَضَ صَارِمٍ وَمُهَنَّدِ

لَطَالَما نَادَاهُم بِكَلَامِهِ                                 جَدِّي النَّبيُّ خَصِيمُكُمْ فِي المَشْهَدِ

ساعد الله قلب الحوراء زينب في تلك الساعة، لم ترَ لأخيها شخصاً ولم تسمع له صوتاً، وهي ترى الكون قد تغيّر ولم تعلم ما جرى على أخيها الحسين عليه السلام، وبينما هي في تلك الحال وإذا بالجواد قد أقبل يصهل صهيلاً عالياً وقد خضب ناصيته بدم الحسين عليه السلام

(آه) يا مهر احسين ما ظنيت لينه                   تجي واتعوف بالحومة ولينه

يگلها اصواب قلبه ما يعينه                         واجيتك من شفت ما بيه قومه

وَراحَ إلى الفُسْطاطِ يَنْعَى جَوَادُه                     فَفَرَّتْ بَناتُ الوَحيِ شَابِكةَ العَشْرِ

فَتِلْكَ تُنادِي وَاحِمَايَ وَهَذِهِ                           رَجَايَ وَهَذِي لا تَفِيقُ مِنَ الذُّعْرِ

الليلة السابعة: مجلس العبّاس عليه السلام

حامِي الظَّعِينَةِ مَنْ فَادَى بِمُهْجَتِهِ               دُونَ ابنِ بِنْتِ رَسولِ اللهِ وَالحَرَمِ

آلَى عَلَى نَفْسِهِ مُذْ صَالَ مُرْتَجِلا                نَفْسِي الوِقاءُ لِنَفْسِ المُفْرَدِ العَلَمِ

أَنْ لا يُجِرِّدَ فِي الهَيْجاءِ صَارِمَهُ               إلَّا ويُغْمِدُهُ مِنْ غُرِّ كُلِّ كَمِيِ

وَمُذْ أَحَسَّ بِبَرْدِ المَاءِ وَهُوَ عَلَى               مَا فِيهِ مِنْ ظَمَأٍ فِي القَلْبِ مُحْتَكِمِ

بَكَى وَقَالَ لِتَروَى غَلَّتِي وَأَخِي                 اللهُ أكْبَرُ مِنْ مَاءِ الفُراتِ ظَمِي

فَآبَ يَحْمِلُهُ عَزْماً بِهِمَّتِهِ                        لَيْثُ العَريِنَةِ لِلأَطْفالِ وَالحرمِ

لَكِنَّما القَدْرُ المَحْتومُ عَاجَلَهُ                    دُونَ الوُصولِ وفِي سَهْمِ المَنونِ رُمِي

نادَى أَخاهُ ألا أَدْرِكْنِي فَقَدْ بَلَغَتْ               مِنِّي أُمَيَّةُ ما رَامَتْهُ مِنْ قِدَمِ

عبّاسُ أَنْتَ عِمَادِي أَنْتَ مُسْتَنَدِي             وَأَنْتَ جَامِعُ شَمْلِي أَنْتَ مُعْتَصَمِي

اليَوْمَ خَلَّفْتَ عَيْنَ الدِّينِ سَاهِرَةً               اليَوْمَ نَامَتْ عُيُونٌ فِيكَ لَمْ تَنَمِ

اليَوْمَ فِي قَتْلِكَ الأَعداءُ قَدْ شَمَتَتْ             اليَوْمَ خَلَّفْتَنِي فَرْداً لِغَيْرِ حَمِي

إنَّ الرَزايا وإِنْ جَلَّتْ فَرِزْؤُكَ قَدْ               أَحَنَى ضُلوعِي وَأَجْرَى أَعْيُنِي بِدَمِ


شعبي:


حنه امصابك اضلوعي اوهلَّت العين                        لعد فَگدكَ يخواض الميادين

يخويه ابطيحتك فرحت الصوبين                            واخوك انهدم يا عبّاس حيله

يخويه انكسر ظهري ابطيحتك هاي                         اوعليه اتحاشمت من عگبك اعداي

بعد منهو اليردها ايگوم ويّاي                               يخويه اوحيد عفتوني يعبّاس

وزينب بعد بيمن ترفع الراس                               اومنهو البظعن يبره العيله

أبوذية:

يخوي ابدما نحرك (يا عبّاس) محنا                       يا عبّاس ليش العدا ما بيهم محنا

عليك حسين ظلّ ظهره محنا                               تشابك آه وهلّ دمعه اعلى خيّه
لو لم يكن في حقّ العبّاس إلّا حديث الإمام الصادق عليه السلام في حقّه لكفى به فضيلة وكرامة حيث قال عليه السلام: “كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبدالله وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً”.
وكذلك حديث الإمام زين العابدين عليه السلام في حقّه: “… رحم الله العبّاس، فقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطعت يداه فأبدل الله عزَّ وجلَّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر ابن أبي طالب عليه السلام، وأنَّ للعبّاس عند الله عزَّ وجلَّ منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة”. وقد ورد في حقّه عن أمير المؤمنين عليه السلام والده أحاديث تبيّن علوّ فضله ومقامه ومنزلته منها: “إنَّ ولدي العبّاس زقَّ العلم زقّاً”.

وكان له أربع وثلاثون سنة، وكما يصفه المؤرِّخون كان أعلم أصحاب الحسين وأشجعهم، وكان بطلاً فارساً وبين عينيه أثر السجود، وكان جميل الطلعة وسيماً في محيّاه ولذا لُقِّبَ بقمر بني هاشم. يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، صبوراً على الطعن في ميدان الكفاح والحروب. وكان معه لواء الحسين عليه السلام اللواء الأكبر فهو قائد الجيش، ولذلك الحسين عليه السلام كان يمنعه من البراز والتوجّه للميدان قائلاً: أخي إن أنت مضيت تفرَّق عسكري، وآل جمعي إلى الشتات. حتّى حينما لم

يبقَ مع الحسين أحد من أصحابه كان يقول الحسين له نفس هذه المقالة. وإنَّما أذن له يوم عاشوراء أن ينطلق إلى المعركة ليستقي الماء للعطاشى والأطفال ولذا سُمِّيَ السقاء. يذكر المؤرِّخون أنَّه لمّا كاتب عمرُ ابن سعد عبيدَ الله ابن زياد في أمر الحسين عليه السلام وكتب إليه على يدي شمر بن ذي الجوشن لعنه الله بمنازلة الحسين عليه السلام ونزوله أو بعزله وتولية شمر العمل، قام عبد الله ابن أبي المحلّ بن حزام… وكانت عمّته أمّ البنين أمّ العبّاس، فطلب من عبيد الله كتاباً بأمان العبّاس وإخوته (عبد الله وجعفر وعثمان أو عون) وقام معه شمر في ذلك فكتب أماناً وأعطاه لعبيد الله، فبعثه إلى العبّاس وإخوته مع مولى له يُقال له كزمان، فأتى به إليهم، فلمّا رأوه قالوا له: قل له: إنَّ لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خيرٌ من أمان ابن سميّة. ووقف الشمر لعنه الله في اليوم التاسع إزاء خيم الحسين عليه السلام وصاح: أين بنو أختنا، أين العبّاس وإخوته؟ وكان العبّاس حينئذٍ جالساً بين يدي الحسين فأطرق برأسه حياءً من الحسين، فصاح الشمر ثانياً وثالثاً، فالتفت الحسين إلى أخيه العبّاس وقال: أخي، قُم وانظر ماذا يريد هذا الفاجر. فقام العبّاس وركب جواده وأقبل إليه فقال له: ما تريد يا ابن ذي الجوشن؟ فقال: أبا الفضل هذا كتاب من ابن زياد يذكر فيه أنّك أنت الأمير على هذا الجيش، وأنت وإخوتك آمنون فلا

فلا تعرّض نفسك للقتل، فقال له العبّاس: لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟ ويلك أفبالموت تخوّفني وأنا المميت خوّاض المنايا؟ فرجع الشمر لعنه الله ولوى عنان جواده، ورجع أبو الفضل كالأسد

الغضبان، فاستقبلته الحوراء زينب عليها السلام وقد سمعت كلامه مع الشمر، قالت له: أخي أحدّثك بحديث، قال: حدّثي يا زينب لقد حلا وقت الحديث، قالت: اعلم يا ابن والدي لمّا ماتت أمّنا فاطمة قال أبي لأخيه عقيل: أريد منك أن تختار لي إمرأة من ذوي البيوت والشجاعة حتّى أصيب منها ولداً ينصر ولدي الحسين بطفِّ كربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصّر يا أبا الفضل.

فلمّا سمع العبّاس كلامها تمطّى في ركاب سرجه حتّى قطعهما وقال لها: “أفي مثل هذا اليوم تشجعيني وأنا ابن أمير المؤمنين.

يختي الأخوكمْ يوصّونه                        بحزام ظهره اوضوه اعيونه

اسكون اعله بختك يمحزونه                   بالشِّدّة أعوف احسين اخونه

يختي وحق شيبات أبونه                      هاليوم أرجّ الكون دونه


والقوم أخيّك يعرفونه                          او حربه السابق يذكرونه


صاحت هلا ابصاحب الغيرة                    يا سورنه او فخر العشيرة

خويه نزلنه ابغير ديره                        او خلاّك أبوك إلنه ذخيره

هلا وهلا ابراعي المروه                      يا لخوّتك لحسين خوّه

يا لبيك حيل اختك تگوه                      يلّي تگوم ابغير نخوة

نعم لم يقصّر العبّاس في كلّ مهمّاته، حرس الخيام، حمل راية الحرب في وسط الأصحاب، وكان هو السّقاء لعطاشى كربلاء يوم السابع من المحرّم استسقى الماء مع جملة من أصحاب الحسين وسقوا العطاشى من الأطفال والنساء. ثمّ كان الحصار والتشديد على منع وصول الحسين وأصحابه إلى الماء. فلمّا كان اليوم العاشر أغمي على بعض الأطفال من العطش، وأقبل بعضهم متعلّقاً بالعبّاس عليه السلام وهم ينادون عمّ أبا الفضل الظمأ الظمأ العطش العطش قد قتلنا (فصار يبكي لحالهم) وهم يتوسّلون به ويتعلّقون بثيابه، فأذن له الحسين عليه السلام لطلب الماء

للأطفال والعطاشى، وودّعه باكياً، وانطلق نحو الميدان كالأسد الغضبان متّجهاً نحو المشرعة.


أَوَ تَشْتَكِي العَطَشَ الفَواطِمُ عِنْدَهُ               وَبِصَدْرِ صَعْدَتِهِ الفُرَاتُ المُفْعَمُ

أحاط به من كانوا موكّلين بالفرات، ورموه بالنِّبال، فجعل يقاتلهم كقتال أبيه أمير المؤمنين فلا ترى إلّا رؤوساً تتطاير وأجساداً ترتمي بين يديه.

وَثَنَى أَبُو الفَضْلِ الفَوارِسَ نُكَّصاً               فَرَأوْا أَشَدَّ ثَباتِهِمْ أَنْ يُهْزَمُوا

مَا كَرَّ ذُو بَأَسٍ لَهُ مُتَقَدِّماً                       إلّا وَفَرَّ وَرَأْسُهُ المُتَقَدِّمُ

بَطَلٌ تَوَرَّثَ مِنْ أَبِيهِ شَجَاعَةً                    فِيها أُنوفُ بَنِي الضَّلالَةِ تُرْغَمُ

فانهزموا وكشفهم عن المشرعة بعد أن قتل منهم مقتلة كبيرة، وصل إلى الماء، ركز اللواء وحين أحسَّ ببرد الماء وقد كظَّه العطش، وقلبه كالحجر من الظمأ، اغترف غرفة ليشرب، أدناها من فمه لكنّه تذكّر عطش الحسين عليه السلام تذكّر شفتي أبي عبد الله كيف شقّتا من
الظمأ، تذكّر كبد الحسين كيف تفتّت من العطش، فرمى الماء من يده، وقال: لا والله لا أشرب الماء وأخي الحسين عطشان. ثمّ أنشأ يقول:

يا نَفْسُ مِنْ بَعْدِ الحُسينِ هُونِي               وَبَعْدَهُ لا كُنْتِ أَوْ تَكُونِي

هَذا حُسَينٌ وَارِدُ المَنونِ                      وَتَشْرَبِينَ بَارِدَ المَعِينِ

ورد في زيارة العبّاس:
نعم الأخ المواسي لأخيه الحسين. هذه هي المواساة وهذا غاية الوفاء.

غرف غرفه ابيمينه اوراد يشرب                 وقلبه من العطش نيران يلهب

ذكر كبده عضيدة والدمع صب                    ذبه واعليّ گال الماي يحرم

اشلون اشرب وخوي حسين عطشان             او سكنه والحرم وأطفال رضعان

وظن قلب العليل التهب نيران                     يريت الماي بعده لاحله اومر

ثمّ ملأ القربة وحملها على كتفه وخرج من المشرعة، فاستقبلته جموع الأعداء، وصاح ابن سعد (لع): اقطعوا عليه طريقه (إن وصل الماء إلى الحسين لأفناكم عن آخركم).

فلمّا رأى العبّاس ذلك منهم حمل عليهم بسيفه وهو يقول:

لَا أَرهَبُ المَوْتَ إِذا المَوْتُ زَقا                        حَتَّى أُوَارَى فِي المَصالِيتِ لِقَى

نَفْسِي لِابْنِ المُصْطَفَى الطُّهْرِ وَقا                     إِنِّي أَنا العَبَّاسُ أَغْدُو بِالسِّقا

وَلا أَخافُ المَوْتَ يَوْمَ المُلْتَقَى

فرموه بالنّبال من كلّ جانب حتّى صار درعه كالقنفذ من كثرة السهام، ولم يقدروا عليه مواجهةً، فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل لعنهما الله، فضربه على يمينه بالسيف فقطعها.
واعبّاساه وامظلوماه..فأخذ السيف بشماله وهو يقول:

واللهِ إِنْ قَطَعْتُمُوا يَمِينِي                   إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي

وَعَنْ إِمامٍ صَادِقِ اليَقِينِ                   نَجْلِ النَّبِيِّ الطَّاهِرِ الأَمِينِ

وقاتل بشماله حتّى ضعف عن القتال وقد أعياه نزف الدم، فكمن له حكيم ابن الطفيل لعنه الله فضربه بالسيف على شماله فقطعها من الزند، ومع هذا لم يجزع ولم يتأوَّه وكلّ همّه كان أن يوصل القربة إلى المخيّم إلى العطاشى (فجعل يهرول بلا يدين في ساعة المعركة واعبّاساه وسيّداه) وهو يقول:

يا نَفْسُ لا تَخْشَيْ مِنَ الكُفَّارِ                وَأَبْشِرِي بِرَحْمَةِ الجَبَّارِ

قَدْ قَطَعُوا بِبَغْيِهِمْ يَسارِي                    فَأَصْلِهِمْ يا رَبِّ حَرَّ النَّارِ

التزم القربة بأسنانه واللواء بين كتفيه، وبينما هو يهرول على هذه الحال بلا يدين -يا مؤمنون يا موالون- أتته السهام من كلّ جانب، فأصاب سهم القربة فأريق ماؤها، فوقف العبّاس متحيِّراً إذ

أتاه سهم فأصاب صدره وسهم آخر أصاب عينه اليمنى فأطفأها وجمدت الدماء على عينه اليسرى، وجاء إليه رجل من بني تميم فضربه بعمودٍ من حديدٍ على رأسه فخرَّ إلى الأرضِ صريعاً ونادى بأعلى صوته: عليك منّي السلام أبا عبدالله أدركني يا أخي…
ساعد الله قلب الحسين لمّا رأى الراية تهوي إلى الأرض وسمع العبّاس يناديه (يا أخا أدرك أخاك) (وهذه الكلمة المناداة بالأخوة لم يسمعها الحسين من العبّاس طيلة حياته، بل كان يناديه سيّدي ومولاي احتراماً وتقديراً، والحسين يطلب منه أن ينادي بيا أخي فكأنّ العبّاس أراد أن يفرح قلب الحسين في آخر لحظة له).

أسرع الحسين مفرّقاً الأعداء عن مصرع أخيه ويقاتلهم ويقول إلى أين تفرّون وقد قتلتم أخي، حتّى انكشفوا بين يديه. يقول بعض الرواة قبل أن يصل الحسين إلى أخيه العبّاس طأطأ رأسه أخذ شيئاً ثمّ قبّله، وإذا هما كفّا العبّاس.. حتّى اقترب من مصرعه، لمّا سمع العبّاس وقع أقدام من حوله ظنَّ أنَّه قادمٌ من الأعداء جاء ليحزّ رأسه فخاطبه: يا هذا بالله عليك أمهلني حتّى يأتي إليّ أخي الحسين (فأقبله ويقبّلني وأشمّه ويشمّني وأتزوّد منه ويتزوّد منّي). فلمّا سمع الحسين ذلك من العبّاس ورأى حاله قطيع اليدين مخضّب الجبين، السهم نابت في إحدى العينين، والدم

والتراب على الأخرى، العلم ممزّق إلى جنبه والقربة مخرّقة، هوى عليه منادياً: أخي عبّاس أنا أخوك حسين، ثمّ صاح: وا أخاه واعبّاساه واقرّة عيناه، واقلّة ناصراه، الآن انكسر ظهري، الآن قلّت حيلتي، الآن شمت بي عدوّي.
خويه انكسر ظهري ولا أقدر أقوم               صرت مركز يا خوي لكل الهموم

يخويه استوحدوني عگبك القوم                 ولا واحد عليه بعد ينغار

يا عبّاس حسّ حسين يمك                        خوي يبكي وخِضَب دمعه ويا دمك

والله حاير يا بو فاضل بجسمك                   خوي وسكنه تسلِّي الطفل باسمك

تقله ساعة ويجيب الماي عمك

وبينما الحسين واضعاً رأس العبّاس في حجره، وإذا بالعبّاس يرفع رأسه يضعه على التراب، فأخذه الحسين ووضعه في حجره ثمّ أعاد العبّاس رأسه إلى التراب، وفي المرّة الثالثة قال الحسين: أخي عبّاس لماذا تصنع هكذا؟ (يعني هذه آخر ساعة أتودّع منك) قال العبّاس: أخي يا
نور عيني كيف لا أصنع هكذا ومثلك الآن جئتني وأخذت برأسي، ولكن بعد ساعة من يرفع

رأسك عن التراب؟ هذه مواساة العبّاس لأخيه، ولهذا نقرأ في الزيارة (نعم الأخ المواسي لأخيه).


يگله خويه يحسين خل راسي بمكانه                 او للخيم روح يحسين خليني عله التربان مطروح

ترضه انا بحضنك أعالج نزعة الروح                وانت تموت اعله الثرى مخمود الأنفاس

آجركم الله وبينما الحسين عند أخيه أبي الفضل إذ شهق شهقةً وفارقت روحه الدنيا فصاح الحسين وا أخاه وا عبّاساه.

قام محنيّ الظهر يكفكف دموعه بكمّه وهو ينادي: وا أخاه وا عبّاساه.

رجع إلى المخيم (كيف يخبر زينب وسكينة وباقي العائلة) أقبل إلى خيمة العبّاس، فأسقط عمودها، عندها ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب ونادت زينب وا أخاه وا عبّاساه وا ضيعتنا بعدك.

وبكى الحسين معهن ونادى وا ضيعتنا بعدك أبا الفضل.

عَبَّاسُ كَبْشُ كَتِيبَتِي وَكَنَانَتِي                   وَسَرِيُّ قَوْمِي بَلْ أَعَزُّ جُنُودِي

أَوَ لَسْتَ تَسْمَعُ زَيِنَبَ تَدْعُوكَ مَنْ               لِي يا حِمايَ إذا العِدا نَهَرُونِي

أَوَ لَسْتَ تَسْمَعُ مَا تَقُولُ سُكَيْنَةٌ                عَمَّاهُ يَوْمَ الأَسْرِ مَنْ يَحْمِينِي

الليلة الثامنة: مجلس عليّ الأكبر عليه السلام

سَلْ كَرْبَلا كَمْ مِنْ حَشَىً لِمُحَمَّدٍ                      نُهِبَتْ بِها وَكَمْ استُجِذَّتْ مِنْ يَدِ

وَلَكَمْ دَمٍ زَاكٍ أُرِيقَ بِها                              وَكَمْ جُثْمانِ قُدْسٍ بِالسُّيوفِ مُبَدَّدِ

وَبِها عَلَى صَدْرِ الحُسَيْنِ تَرَقْرَقَتْ                   عَبَراتُهُ حُزْناً لِأَكْرَمِ سَيِّدِ

وَعَلِيُّ قَدْرٍ مِنْ ذُؤابةِ هاشِمٍ                         عَبَقَتْ شَمائِلُهُ بِطِيبِ المَحْتَدِ

أَفْدِيهِ مِنْ رَيْحَانَةٍ رَيَّانَةٍ                              جَفَّتْ بِحَرِّ ظَماً وَحَرِّ مُهَنَّدِ

للهِ بَدْرٌ مِنْ مُراقِ نَجِيعِهِ                              مَزَجَ الحُسَامُ لُجَيْنَهُ بِالعَسْجَدِ

مَاءُ الصِّبا وَدَمُ الوَريدِ تَجارَيا                        فِيهِ وَلاهِبُ قَلْبِهِ لَمْ يَخْمُدِ

جَمَعَ الصِّفاتِ الغُّرَّ وَهِيَ تُراثُه                       مِنْ كُلِّ غِطْرِيفٍ وَشَهْمٍ أَصْيَدِ

فِي بَأْسِ حَمْزَةَ فِي شَجاعَةِ حَيْدَر                     بِإِبا الحُسَيْنِ وَفِي مَهابَةِ أَحْمَدِ

وَتَراهُ فِي خُلُقٍ وَطِيبِ خَلائِقٍ                         وَبَلِيغِ نُطْقٍ كَالنَّبِيِّ مَحَمَّدِ

وَيَؤُوبُ لَلتَودِيعِ وَهُوَ مُكَابِدٌ                          لِظَمَا الفُؤادِ وَلِلْحَدِيدِ المُجْهِدِ

يَشْكُو لِخَيْرِ أَبٍ ظَماهُ وَما اشْتَكَى                     ظَمَأَ الحَشَى إلَّا إلى الظَّامِي الصَّدِي

فانْصَاعَ يُؤثِرُهُ عَلَيْهِ بِرِيقِهِ                            لَوْ كانَ ثَمَّةَ رِيقِهِ لِمْ يَجمُدِ


شعبي:


يبويه واج قلبي امن العطش نار                  شمس اوحديد تدري والوگت حار

بكا اوگله يبويه اوداعة الله                        اشو الساني على السانك تگلّه

لروح الجدي الهادي وگله                         شبع ريحانتك من أمتك جور

سگاني جدي ابكاسه                               يبويه او هل حضر يَمّي

والزهره او علي الكرار                           وياه الحسن عمّي

يبويه او بكوا عد راسي                          او تحنُّوا كلهم ابدمي

اوكاسك من تِجي مذخور                          يحسين او بذل جهده

أبوذية:

علي الأكبر صمت يحسين ونصار                   شباب ابني وعليه بالقلب ونصار

بعدك ما ظل لبوك أعوان وانصار                   وبيه اگطَعت يوم الغاضريه
ورد عن الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية عند السلام على عليّ ابن الحسين عليهما السلام : “السلام عليك يا أوّل قتيلٍ من نسل خير سليل من سلالة إبراهيم الخليل”.
أوّل الشهداء في كربلاء من شهداء بني هاشم، وأوّل فداء قدّمه الحسين عليه السلام في ميدان الشهادة بعد شهادة أصحابه، ولده وقرّة عينه وشبيه جدّه عليّ الأكبر رضوان الله عليه… وإذا كان النبيّ إبراهيم عليه السلام قد ابتلاه الله بأن يقدّم ابنه للذبح، ثمّ فداه بكبشٍ عظيم، وقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ﴾1، فما حال الإمام الحسين عليه السلام وكيف يكون ابتلاؤه حيث لم يقدّم نفسه فقط، ولم يرضَ بدمه الشريف وحده أن يُراقَ على ميدان القربان الإلهيّ، حتّى قدّم أصحابه جميعاً وأولاده وأفلاذ أكباده، الصغير منهم والكبير. الصغير يُذبح بين يديه عطشاناً ويعلم ما سيجري له، ولكنّه يقدّم القربان إلى الله ويقول: “اللهم تقبّل منّا هذا القربان”. والكبير يقتل مقطّعاً بالسيوف ظامئاً عطشاناً، ويعلم أنّه سيجري ما سيجري عليه، ولكن يتقرّب إلى الله بهذا القربان. فأيّ بلاء هذا، وماذا استحق الحسين به، بل هو البلاء الأعظم وهو الفداء الأكبر الذي فدى الله به دينه عن أنبيائه وأوليائه، ولذا

 

71

ليس غريباً أن يسكن دم الحسين الذي اختلط مع دماء أهل بيته وأصحابه، أن يسكن في الخلد وتقشعرّ له أظلّة العرش ويبكي له جميع الخلائق، كما في زيارة الإمام الصادق عليه السلام.

الحسين عليه السلام قدّم ولده شهيداً ورَضي به فداءً قبل أن يستشهد في كربلاء، وأيّ فداء يقاس بفداء الحسين بعليّ الأكبر أشبه النّاس خَلْقاً وخُلُقاً ومنطِقاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث أنّ أهل المدينة كانوا إذا اشتاقوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نظروا إلى هذا الشاب، وكأنّهم ينظرون إلى رسول الله ويسمعونه، وكان يوصف عليه السلام بأنَّه شاب حسن الصورة، صبيح المنظر على وجه لا نظير له، وشجاعته مشهورة، وكذلك سائر صفات الكمال من الجلالة والعظمة والسخاء وحُسن الأخلاق، وغير ذلك…

صحيح أنّ الحسين عليه السلام قدّم ولده راضياً مطمئنّاً، ولكن يحقّ للحسين أن تكون مصيبته بشبيه جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصيبة تهدّ قواه، ويكون حزنه معها حزناً يشرف فيه على الهلاك والموت، كما قال المرحوم الشيخ جعفر التستريّ قدّس سرّه، يقول إنّ الحسين عليه السلام في مصيبة ولده قد احتضر وأشرف على الموت ثلاث مرّات.

المرّة الأولى لمّا برز عليّ الأكبر واستأذن أباه فأذن له وألبسه

الدرع والسلاح وأركبه على العقاب (من أجياد خيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ). فلمّا تجلّى وجه طلعته من أفق “العقاب” واستولت يده وقدمه على العنان والركاب، خرجن النساء وأحدقن به فأخذت عمّاته

وأخواته بعنانه وركابه ومنعنه من العزيمة، فعند ذلك تغيّر حال الحسين عليه السلام بحيث أشرف على الموت، وصاح بنسائه وعياله: “دعنه فإنّه…مقتول في سبيل الله”. ثمّ أخذ بيده وأخرجه من بينهن فنظر إليه نظرة آيسٍ منه وأرخى عينيه وبكى، وأطرق برأسه إلى الأرض لئلّا يراه العدوّ فيشمت به. يقولون نظر الحسين إلى ولده قائلاً: “ولدي عليّ إليَّ إليّ أودّعك وتودّعني، أشمّك وتشمّني”، فتعانقا حتّى غُشي عليهما.

ويلي من تلاگوا عند الوداع                   امشابك طول لمن هووا للگاع

يگله والدمع بالعين دفاگ                     ابعبره امكسّره وبقلب خفاگ

يبويه اوداعة الله هذا الفراق                 يبويه اشبيدي هذا المقدر

فلمّا أفاق الحسين عليه السلام رفع رأسه مشيراً بسبّابته إلى السماء (أو رفع شيبته المباركة إلى السماء)، وقال: “اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خَلقاً وخُلُقاً ومنطِقاً

ثمّ رجع إلى أبيه الحسين عليه السلام وقد أصابته جراحات كثيرة والدّم يجري من حلق درعه، وقد أخذ العطش منه مأخذاً بليغاً، شاكياً إلى أبيه ظمأه، وما أصعبها من ساعة، عندها – كما يقول العلّامة التستريّ- كانت المرّة الثانية التي أشرف فيها الحسين على الموت في مصيبته بولده عليّ الأكبر.برسولك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى هذا الغلام، اللهم امنعهم بركات الأرض، وفرِّقهم تفريقاً، ومزِّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قِدداً ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنَّهم دعونا لينصرونا، ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا…”. وبينما الحسين يودّع ولده بالدّعاء، فهم عليّ أنّها الرخصة له بالبراز، فحمل على القوم كالأسد الغضبان يقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة (فجندل الأبطال وهزم الفرسان) وتعجّبوا من صولته وشجاعته وفروسته، وكيف لا يكون كذلك وهو ابن الحسين وجدّه أمير المؤمنين، حتّى أنَّ البعض صاح بأصحابه ويحكم هذا عليّ ابن أبي طالب خرج من قبره يقاتلكم، فجعل عليّ الأكبر يعرّف عن نفسه قائلاً:


أنَا عَلِيُّ ابنُ الحُسَينِ بنِ عَلَي                      نَحْنُ وَبَيْتِ اللهِ أَوْلَى بِالنَّبِي

وَاللهِ لا يَحْكُمُ فِينا ابنُ الدَّعِي                      أَطْعَنُكُمْ بِالرُّمْحِ حَتَّى يَنْثَنِي

أَضْرِبُكُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَلْتَوِي                      ضَرْبَ غُلامٍ هَاشِمِيٍّ عَلَوِي

فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ الأعداء من كثرة من قتل منهم:

فَتىً جُمِعَتْ فِيهِ شَمائِلُ أَحْمَدٍ                     وَبَأْسُ عَلِيٍّ المُرتَضَى وَثَبَاتُهُ

فَواللهِ لا أَنْساهُ يَوْمَ الوَغَى وَقَدْ                  حَكَتْ حَمَلاتُ المُرْتَضى حَمَلاتُهُ

يَكِرُّ عَلَيْهِمْ كَرَّةَ الَّليثِ وَالظَّما                    بِأَحْشائِهِ قَدْ أُضْرِمَتْ جَذَواتُهُ
ساعد الله قلب الحسين حينما استقبل ولده راجعاً من الميدان مع ما به من الجراحات والظمأ ولم يقدر أن يقدّم له ما يبلّ غليله، نعم أقبل عليّ الأكبر إلى أبيه قائلاً: يا أبه العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماءٍ من سبيل اتقوّى بها على الأعداء؟

يبويه شربة أميّه الكبدي                      اتگوى ورد للميدان وحدي

يبويه انفطر كبدي وحق جدّي                العطش والشمس والميدان والحر

يگله سهله يبويه طلبتك هاي                 لكن يعقلي او ماي عيناي

امنين اجيبن شربة الماي                     والعطش مثلك يبّس احشاي

ضمّه الحسين إلى صدره وبكى وقال: “يعزّ على محمّد وعليّ وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبوك، وتستغيث بهم فلا يغيثوك.

يقول الراوي: فمدّ الحسين لسانه ليمصّ منه ولده عليّ، فبكى عليّ الأكبر وقال: أبه لسانك أيبس من لساني. (أي وا سيّداه، وا حسيناه، وا عليّاه وا مظلوماه). ويقولون دفع الحسين خاتمه إلى ولده عليّ الأكبر وقال: خذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوّك فإنّي أرجو أن لا تمسي حتّى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً…”، فرجع عليّ الأكبر إلى القتال وحمل على القوم بكلّ شجاعة وصلابة مع ما فيه من الجراحات والعطش وهو يقول:


الحَرْبُ قَدْ بانَتْ لَها حَقَائِقُ               وَظَهَرَتْ مِنْ بَعْدِها مَصادِقُ

وَاللهِ رَبِّ العَرْشِ لا نُفارِقُ               جَمْعَكُمْ أَوْ تُغْمَدَ البَوَارِقُ

فبعد أن أكثر فيهم القتل (يا مؤمنون) -عظّم الله لكم الأجر- شدّ عليه مرّة ابن منقذ التميميّ (لع) فطعنه برمحه (وضربه لعين على مفرق رأسه) فانقلب على قربوس سرج فرسه واعتنق الفرس، وقد نزلت الدماء على وجه الفرس، فبدل أن يأخذه إلى معسكر الحسين، حمله إلى معسكر الأعداء، فاحتوشوه وقطّعوه بأسيافهم إرباً إرباً -رحم الله من نادى وا عليّاه وا أكبراه وا شهيداه- نادى وقد بلغت روحه التراقي: “أبتاه عليك منّي السلام، هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول لك العجل

العجل فإنّ لك كأساً مذخوراً”. – ساعد الله قلب الحسين عليه السلام – تقول سكينة: لمّا سمِع أبي صوت عليّ، أخذ تارة يقوم وأخرى يجلس وهو يقول: وا ولداه، وجعل يتنفّس الصعداء، وارتفع صوت النّساء بالبكاء والنحيب فسكّتهنّ الحسين قائلاً: إنّ البكاء أمامكنّ، ثمّ انحدر إلى مصرع ولده ومعه شباب من بني هاشم، حمل على القوم حتّى فرّقهم عن مصرع ولده. وقف عليه، رآه مقطّعاً بالسيوف إرباً إرباً، جلس عنده، أخذ رأسه وضعه في حجره وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه (لعلّ من أفجع الصور هذا المشهد، الحسين عند ولده عليّ، وهذه هي الحالة الثالثة التي كان فيها الحسين كحالة المحتضر عند مصرع الأكبر) يقول المؤرّخون: لمّا وصل الحسين إلى ولده عليّ، نزل عنده تمدّد إلى جنبه، ألصق صدره على صدره، وخدّه على خدّه، ثمّ قال: “بني، قتل الله قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الرّحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول”، ثمّ هملت عيناه بالدموع ونادى: ولدي عليّ، على الدنيا بعدك العفا، أمّا أنت يا بني فقد استرحت من همّ الدنيا وغمِّها، وبقي أبوك لهمّها وكربها.


گعد يمَّه اوبكا او ناداه يبني               عفتوني وحيد اورحتوا عني

يبويه امصابكم والله گتلني                او ضرباتك شفت بيها المنيه


يبويه اشلون گلي داروا اعليك                اظن من الضرب ما ظل نفس بيك


وحاكيني يروحي ماني أحاكيك                وحك جدّك امصاب البيك بيّه

(آه) بُنَيَّ اقْتَطَعْتُكَ مِنْ مُهْجَتِي                 عَلامَ قَطَعْتَ جَميلَ الوِصالِ

تُقَطَّعُ بِالسُّيوفِ وَأَنْتَ قَلْبِي                    فَهَلْ أَبْقَوا لِقَلْبِي فِيكَ بَاقِ

الليلة التاسعة: مجلس القاسم بن الحسن عليه السلام

اكَمْ لِلمُتيَّمِ مِنْ دُمُوعٍ جَارِيَه                          حُزْناً عَلَى تِلْكَ الطُّلولِ الخَاوِيَه

يا دَارُ غَيَّرَكِ الزَّمانُ بِصَرْفِه                          وَمَحَتْ مَحَاسِنَكِ الخُطوبُ العَادِيَه

وَأَبَادَ أَهْلَكِ بِالصُّروفِ فَأَصْبَحُوا                      كُلٌّ يَؤُمُّ مِنَ النَّواحِي نَاحِيَه

مِثْلُ الحُسَيْنِ عَلَى الصَّعيدِ مُجَرَّدٌ                      وَيَزيدُ يَرْفُلُ بِالبُرودِ الضَّافِيَه

لَمْ أَنْسَهُ ثَاوٍ عَلَى حَرِّ الثَّرى                           وَبَنُو أَبِيهِ كَالأَضاحِي ثَاوِيَه

فَوْقَ الرِّماحِ رُؤوسُهُمْ مَشْهُورَةٌ                       وَجُسُومُهُمْ تَحْتَ السَنابِكِ عَارِيَه

قَدْ غُسِّلُوا بِدَمِ الرِّقابِ وَكُفِّنُوا                         مِنْ نَسْجِ هَاتِيكَ الرِّياحِ السَّافِيَه

وَالقَاسِمُ بنُ المُجْتَبَى مَا بَيْنَهُم                        وَجَبِينُهُ يَزْهُو كَشَمْسٍ ضَاحِيَه

لَمْ أَنْسَهُ بَيْنَ الرِّجالِ وَعُمْرُهُ                           يا لِلْبَرِيَّةِ خَمْسَةٌ وَثَمانِيَه

يُرْدِي الكُمَاةَ بِسَيْفِهِ فَتَخالُهُم                           فَوْقَ الثَّرَى “أَعْجازَ نَخْلٍ خَاوِيَه”

حَتَّى إذا أَرْدَوْهُ مُلْقَىً لِلْثَرى                            بِدِماءِ وَجْنَتِهِ المُضيئَةِ قانِيَه

نَادَى أَلَا يا عَمُّ أدرِكنِي فَقَدْ                            وَزَّعْنَ أَعْضائِي السُّيوفُ الماضِيَه

فَأَتاهُ يُسْرِعُ بَالخُطَى وَدُمُوعُهُ                          لِلأَرْضِ مِنْ عَيْنَيْهِ تُهْمَى جَارِيَه


شعبي:


يعمي من ضرب هامتك نصين                    يبعد اهلي اصواب اليوجعك وين

يعمي اشلون أشيلك للصواوين                   وانته من الضرب جسمك مخذم

شاله او للمخيم بيه سدّر                         وحط جاسم يويلي الصف الأكبر

گعد ما بينهم والدّمع فجّر                         تشب ناره او عليه اتراكم الهم

يم جاسم غدت للحرم حنّه                         لمن شافته ابدمّه تحنّه

أمه اتصيح يا جاسم امهنّه                       ابهلزّفه يبعد الخال والعم

أبوذيّة:

أنا ردتك ما ردت دنيا ولا مال                    تحضرني لو وقع حملي ولا مال

يبني يا جاسم خابت اظنوني ولا ما ل           وبوقت الضيق يبني اگطعت بيّه

ورد عن الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية عند ذكر القاسم ابن الحسن المجتبى: “السلام على القاسم ابن الحسن المضروب على هامته، المسلوب لامته، الذي نادى عمّه الحسين فجلّى عليه كالصقر فرآه يفحص بيديه ورجليه، فقال: يعزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يُجيبك أو يجيبك فلا يعينك أو يعينك فلا يغني عنك، بعداً لقومٍ قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدّك و أبوك، هذا والله يومٌ كثر واتره وقلّ ناصره”.

القاسم رضوان الله عليه على صغر سنِّه بحيث عُبِّر عنه أنَّه لم يبلغ الحُلُم (كان عمره حوالي 12 أو 13 سنة)، كان متهيّئاً لنصرة عمّه الحسين ومتدرّباً على القتال كالفرسان والشجعان، وليس عجيباً أمره إذ أنَّه ابن الحسن وجدّه أمير المؤمنين وتربّى في حجر الحسين فغدا كاملاً في أخلاقه وإيمانه وثباته، وقدوة للعارفين والسالكين إلى الله في عشقه للشهادة، يسأله الحسين عليه السلام عندما أراد القاسم أن يعرف هل هو في جملة من يرزقوا الشهادة- كما بشّر بها الإمام الحسين أصحابه ليلة عاشوراء-، فقال له الحسين: ولدي قاسم كيف تجد طعم الموت؟ قال: يا عمّاه، والله الموت بين يديك عندي أحلى من العسل، فبشَّره الحسين بالشهادة وأنّه في جملة من يكون لهم هذا الفوز وهذه السعادة معه من الشهداء….

ولذلك بعد أن قتل أصحاب الحسين عليهم السلام يوم عاشوراء وبرز للقتال أبطال بني هاشم الذي ارتضعوا من ثدي الفتوّة ولبان الشجاعة، وقتل عليّ الأكبر وجملة من شباب بني هاشم، وسمع القاسم نداء عمّه الحسين واغربتاه، واقلّة ناصراه، أما من معين يعيننا؟! أما من ناصر ينصرنا؟! أما من ذابٍّ يذبّ عنّا؟! خرج القاسم إلى عمّه الحسين قائلاً: لبّيك سيّدي يا عمّ يا أبا عبد الله، فلمّا نظر إليه الحسين عليه السلام وكان أشبه بأبيه الحسن عليه السلام اعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غشي عليهما (ولعلّ هذا الوداع لم يحصل إلّا مع القاسم)..فلمّا أفاقا طلب القاسم المبارزة فأتى الحسين عليه السلام فقال: يا عمّاه لا طاقة لي على البقاء وأرى بني عمومتي وأخوتي مجزّرين، وأراك وحيداً فريداً، فقال له الحسين عليه السلام: يا ابن أخي أنت الوديعة من أخي، أنت العلامة… فلم يزل القاسم يقبّل قدمي عمّه ويديه، فقال له الحسين: بني قاسم أراك تمشي إلى الموت برجليك، قال وكيف لا يكون ذلك وأنت بقيت بين الأعداء وحيداً فريداً لا تجد ناصراً ومعيناً روحي لروحك الفداء ونفسي لنفسك الوقاء، عندها قال له الحسين: بني قاسم إليّ إليّ، فدنا منه القاسم، فجاء به الحسين إلى الخيمة وأتى بصندوق الإمام الحسن المسموم الذي فيه ودائعه وملابسه ولامة حربه، فأخرج الحسين ملابس الحسن وعمامته وسيفه وقلّد القاسم

السيف، وشقّ أزياقه، وقطع العمامة نصفين وأدلاها على وجهه، ثمّ ألبسه ثيابه على صورة الكفن، ثمّ قال ولدي قاسم أبرز (ولكن قبل ذلك ودّع أمّك وأخواتك) وما

أصعبها من ساعة، رحم الله الشاعر يصوّر هذا المشهد:

لزمت ركابه سكينة                  وعمته بحلقه تشمه

ومن الخيم مدهوشة                 طلعت تنادي أمه

يبني يا جاسم هالوقت               حالك لعمك ضمه

لها اليوم أنا ذاخرتك                مالك تخيب ظنوني

(قالها) أوصيك يمه وصيه         تسمعين لفظ اجوبي

شبان لو شفتيهم                    بالله ذِكري شبابي

محروم من شمّ الهو                من دون كل صحابي

عطشان أنا يا والده                حين الشرب ذكريني
ثمّ انحدر القاسم نحو الميدان ودموعه جارية على خدّيه، وهو يقاتل قتال الرجال الأبطال الشجعان، فأنكره بعضهم وصاروا يتساءلون من هذا الفتى الذي يقاتل قتال الأبطال، فأنشأ يقول:
إِنْ تُنْكِرُونِي فَأَنا نَجْلُ الحَسَنْ                  سِبْطِ النَّبِيِّ المُجْتَبَى والمُؤْتَمَنْ

هَذا حُسَيْنٌ كَالأَسِيرِ المُرْتَهَنْ                   بَيْنَ أُناسٍ لا سُقُوا صَوْبَ المُزُنْ

يقول حميد ابن مسلم: خرج علينا القاسم ووجهه كفلقة قمر طالع، بيده السيف يضرب به قُدماً قُدماً، وعليه قميص وازار وفي رجليه نعلان، فبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله ولا أنسى أنَّها اليسرى، فوقف ليشدّها (وكأنَّه لا يحسب حساباً للجيش من حوله من شجاعته العظيمة..) وكان عمر بن سعد بن نفيل الأزديّ إلى جانبه، فقال: والله لأشدّنّ على الغلام، ولأثكلنَّ به أمّه، قلت: يا هذا يكفيك ما به وقد احتوشوه من كلّ جانب ومكان، قال: والله لأفعلن، فشدّ على الغلام فما ولّى حتّى ضرب الغلام بالسيف على رأسه، ففلق هامته فخرّ إلى الأرض صريعاً ينادي: عليك منّي السلام يا عمّاه أدركني.. فجاءه الحسين كالصقر المنقضّ على فريسته، فرّق الأعداء عن مصرع ابن أخيه (رحم الله المنادي واقاسماه وا مظلوماه) وجده يفحص بيديه ورجليه، نادى: بني قاسم عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا
يعينك، أو يعينك فلا يُغني عنك، بُعداً لقومٍ قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة جدّك وأبوك، هذا يومٌ والله كثر واتره وقلّ ناصره.


بكا اوناداه يا جاسم اشبيدي                     يريت السيف قبلك حزّ وريدي

هان الكم تخلوني اوحيدي                       او على اخيمي يعمي القوم تفتر

ثمّ أنّ الحسين عليه السلام وضع صدره على صدر القاسم، وحمله إلى المخيّم -ساعد الله قلبك أبا عبد الله- (تقول الرواية: احتمله ورجلاه تخطّان في الأرض)، لم يُطق الحسين أن يحمل القاسم مستوياً لأنَّ المصائب التي مرَّت عليه خاصّة مصيبة القاسم أحنت ظهره.

ضلع احسين على القاسم محنه                 يعمي ابموتتك زادت محنة

شاله احسين وبدمه محنه                       آه اشلون حال أمّه الزكية

جاء بالقاسم إلى الخيمة التي فيها عليّ الأكبر، وضعه إلى جنبه، فجعل ينظر تارةً إلى وجه الأكبر وإلى وجه القاسم تارةً أخرى، وهو يكفكف دموعه بكمّه، وتمدّد بينهما وأخذ يقبّلهما وينادي (واولداه واعليّاه، واقاسماه وابن أخاه).


شاله لخيمته ويسكِب دمع عينه                 وقعد ما بين شِبله الأكبر وبينه


نِده وصاح يا رمله وسكينه                     تعالن للعزيز واشوفن اشحاله

وقيل إنّ الحسين ندب القاسم بهذه الأبيات:

غَرِيبُونَ عَنْ أَوْطانِهِمْ وَدِيارِهِمْ                   تَنوحُ عَلَيْهِمْ فِي البَرارِي وُحُوشُها

وَكَيْفَ لا تَبْكِي العُيونُ لِمَعْشَرٍ                     سُيوفُ الأَعادِي فِي البَرارِي تَنُوشُها

بُدورٌ تَوارَى نُورُها فَتَغَيَّرتْ                       مَحَاسِنُها تُرْبُ الفَلَاةِ نُعُوشُها

شباب اوبدور وابدمهم تحنُّوا                     وابلذَّت الدنيا ما تهنُّوا

عله موت الشرف والعز تعنُّوا                    ولا ذلّوا لعند اسيوف اميّه

صار الحسين ينظر إلى ولده عليّ الأكبر وقتلى حوله من أهل بيته، ورفع طرفه إلى السماء وقال:

اللهم أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً، صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً.

يا شبان بالله لا تونّون                             او بونينكم قلبي تكطعون


تصدعون قلبي المن تحنون                        شبان مثل الورد يزهون


وسفه على الغبرة ينامون

ساعد الله أمّه رمله لمّا نظرت إلى ولدها الوحيد مشقوق الهامة مخضّباً بدمه ألقت نفسها عليه منادية: واولداه، واقاسماه:

(نصّاري)

امبارك ما بين سبعين ألف جابوك                  عن الحنه ابدما الراس حنوك

ابدال الشمع بالنِّشاب زفُّوك                         املبَّس فوق راسك نبل تنثر

ربيتك يا عيني وعيني بعينك                       واتنطّر لعرسك واحسب سنينك

تاليها يا جاسم اسمع أنينك                          واشوفك داير ابشخصك خيالها

جابوك يبني اولا عرفتك من الجروح               يا شمعة البيت اوزهرته اوفرحة الروح

عگب الفرح يا حيف تالي العمر بالنوح            أگضّيه يبني لا عسن ظليت بعدك

يا لبيدي افرشلك كنت يبني وأغطِّيك                نايم عله التربان هِسّه اولا نفس بيك

لو يرضه منّي الموت والله ابروحي أفديك


ليالي اسهرت برباتك وعدلك                وحَسِّب للعرس يبني وعدلك


أتاري النوب تاليها وعدلك                 تعوف العرس وآنه ابقى ابعزيه

مُرَمَّلاً مُذْ رَأَتْهُ رَمْلَةٌ صَرَخَتْ             أَيَا مُهْجَتِي وَسُرورِي يا ضِيا بَصَرِي

الليلة العاشرة: مجلس الطفل الرضيع

اللهُ يا حَامِي الشَّرِيعَه                 َتُقِرُّ وَهْيَ كَذا مَرُوعَه

بِكَ تَسْتَغِيثُ وَقَلْبُها                    لَكَ عَنْ جَوَىً يَشْكُو صُدُوعَه

مَاتَ التَّصَبُّرُ فِي انتِظارِكَ             أَيُّها المُحْيِي الشَّريعَه

فَانْهَضْ فَما أَبْقَى التَّصَبُّرُ             غَيْرَ أَحْشاءٍ جَزوعَه

قَدْ مَزَّقَتْ ثَوْبَ الأَسَى                  وَشَكَتْ لِواصِلِها القَطِيعَه

كَمْ ذَا القُعودُ وَدِينُكُم                   هُدِمَتْ قَوَاعِدُهُ الرَّفِيعَه

تَنْعَى الفُروعُ أُصُولَهُ                   وَأُصُولُهُ تَنْعَى فُروعَه

فَاشْحَذْ شَبا عَزْمٍ لَهُ                    الأَرواحُ مُذْعِنَةٌ مُطِيعَه

وَاطلُبْ بِهِ بِدَمِ القَتيلِ                  بِكَرْبِلاءِ فِي خَيْرِ شِيعَه

مَاذا يُهيُجُكَ إنْ صَبَرْتَ                لِوَقْعَةِ الطَّفِّ الفَظيعَه

أَتَرَى تَجيئُ فَجِيعَةٌ                     بِأَمَضَّ مِنْ تِلكَ الفَجِيعَه

حَيْثُ الحُسَيْنُ عَلَى الثَّرى             خَيْلُ العِدَى طَحَنَتْ ضُلُوعَه

قَتَلَتْهُ آلُ أُمَيَّةٍ                          ظَامٍ إلى جَنْبِ الشَّريعَه

وَرَضيعُهُ بِدَمِ الوَريدِ                  مُخَضَّبٌ فَاطْلُبْ رَضيعَه

 

شعبي:


لو بس الزلم تخلص قتل بالكون          هاي نقول عادة وأمر بلكي يهون

لكن ليش ما ذنب الّذي يرضِعون          عطاش وحرملة بسهام يسقيها

(آه) ردّوك يبني ابسهم مفطوم            يالرحت عن الماي محروم

بعدك لحرم لذت النوم                      وأصبغ يعگلي سود الهدوم

وابكي عليك بقلب مالوم

أبوذيّه:

مياتم للحزن ننصب ونبني                  فجعني حرملة ابسهمه ونبني

الطفل عادة يفطمونه (ونبني)             انفطم ويلاه بسهام المنية

ورد في زيارة الإمام الحجة عجّل الله فرجه الشريف:
(السلام على عبد الله الرضيع المرميّ الصريع المتشحِّط دماً والمصعّد بدمه إلى السماء المذبوح بالسهم في حجر أبيه، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسديّ وذويه).

من جملة الشهداء الّذين قدّمهم الحسين قرباناً إلى الله فداءً لدينه عبد الله الرضيع ولده.

والحسين عليه السلام أخبر عن شهادته وذكره في جملة من سيُقدِّمهم في سبيل الله، تلك الدّماء الطاهرة العزيزة على الله التي أحيت الدين كان من جملتها دماء الرضيع التي رمى بها الحسين إلى السماء فما رجع قطرة واحدة منها وسكنت في الخلد واقشعرّ لها أظلّة العرش، ولذلك هذه المصيبة وهذا الفداء ذكره الإمام الحجّة عجّل الله فرجه الشريف ولقد آلم قلبه الشريف كما كانت هذه المصيبة مذكورة عند أئمّة أهل البيت عليهم السلام في مجالسهم يشيرون إليها ويبكون عندها ويأمرون شيعتهم بالبكاء لها، حتّى أنّ الإمام الصادق عليه السلام عندما كان يعقد مجالس العزاء على جدّه الحسين كان يأمر بأن يؤتى بطفل رضيع يُرفع أمام النّاس ليتذكّر المؤمنون مصيبة عبد الله الرضيع..

والإمام الحسين كذلك أوصى شيعته كما في وصيّته لابنته سكينة..
وقد نظمت بهذه الأبيات:


شِيعَتي مَهْما شَرِبْتُمْ عَذْبَ مَاءٍ فَاذْكُرُونِي                أوْ سَمِعْتُم بِشَهيدٍ أوْ غَريبٍ فاندِبونِي

فأَنا السِّبْطُ الَّذي مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ قَتَلُونِي                   وَبِجُرْدِ الخَيْلِ بَعْدَ القَتْلِ عَمْداً سَحَقُونِي

لَيْتَكُمْ في يَوْمِ عاشُورا جَميعاً تَنْظُرونِي                  كيفَ أسْتَسْقِي لِطِفْلِي فِأَبَوْا أنْ يَرْحَمُونِي

فَسَقَوْهُ سَهْمَ بَغْيٍ عِوَضَ الماءِ المَعينِ

نعزّي إمامنا الحجّة عجّل الله فرجه في هذه الليلة الحزينة بهذه المصيبة الإلهيّة ونسأل الله أن يكتبنا في جملة أوليائه الذين يأخذون بثاراته حين ينادي فيهم يا لثارات الحسين بعد أن يظهر عجّل الله فرجه في الكعبة ويتوجّه إلى كربلاء كما يُروي- يجتمع النّاس من حوله وهو عند جدّه الحسين عليه السلام يضرب سيفه بالأرض يستخرج جثمان الرضيع المدفون على صدر والده الحسين أو إلى جنبه، يرفعه أمام النّاس على الحالة التي قتل وذُبح بها من الوريد إلى الوريد وينادي أيّها النّاس بأيّ ذنب يُذبح هذا الرضيع من الوريد إلى الوريد (بأيِّ ذنب يُذبح على يدي والده الحسين) فيضجّ النّاس بالبكاء وَكلٌّ ينادي وا حسيناه وا شهيداه وا إماماه نعم أيّها المؤمنون- هذا الطفل لم يكفِ أنّه ذُبح على يدي والده

إلّا أنّه ذُبح عطشاناً ظمآناً لم يذق ماءً، في مثل هذه الليلة كان الطفل يضطرب بين سيّدتنا زينب اضطراب السمكة في الماء- كما تروي سكينة ابنة الحسين- وهو يصرخ وهي تقول: صبراً يا ابن أخي وأنّى لك الصبر وأنت على هذه الحالة يعزّ والله على عمّتك أن تراك عطشاناً، طلبت له جرعة صغيرة من الماء تبلّ شفتيه اليابستين لم تجد، حامت حول الخيام ومعها ما يقرب من عشرين صبيّ وصبيّة يطلبون الماء لهذا الرضيع ولهم فلم يجدوا حتّى كان اليوم العاشر، أقبلت به الحوراء زينب إلى الحسين وكان قد قتل جميع الأصحاب وكذلك أهل بيت الحسين ولم يبق إلّا زين العابدين العليل في خيمته، أتت به إلى الحسين وقد أراد أن يودّعه فقالت له: يا أخي إنّ هذا الطفل- له مدّة- ما شرب الماء فاطلب له شربة من الماء، نظر إليه الحسين مغمىً عليه من العطش، شفتاه قد ذبلتا من الظمأ، أجلسه في حجره جعل يقبّله ويقول: ويلٌ لهؤلاء القوم إذا كان جدّك محمّد المصطفى خصمهم… وضعه الحسين تحت ردائه يظلّله من حرارة الشمس، أقبل به نحو الأعداء وقف أمام الجيش حاملاً طفله التفت يمنة ويسرة ثمّ خاطبهم قائلاً: يا قوم قد قتلتم أخوتي وأولادي وأنصاري، وما بقى غير هذه الطفل، وهو يتلظّى عطشاً

من غير ذنب أتاه إليكم، فاسقوه شربة من الماء.
(يا قوم ان لم ترحموني فارحموا هذا الطفل)، (لقد جفّ اللبن في ثدي أمّه)..

(آه) ثُمَّ انْثَنَى نَحْوَ الوَغَى بِرَضِيعِهِ                    مُسْتَرحِماً لِظَماهُ مَنْ لَمْ يَرْحَمِ

يَدعُو أَلا هَلْ شُرْبَةٍ تَسْقُونَهُ                            مَاءً فَها هُوَ ذَو حَشىً مُتَضَرِّمِ

فَتَخاسَروا بِجَوابِهِ لَكِنَّما                                كانَ الجَوابُ لَهُ جَوابَ الأُسْهُمِ

فاختلف العسكر فيما بينهم فمنهم من لعن عمر ابن سعد، ومنهم من قال إذا كان ذنب للكبار فما ذنب هذا الطفل، ومنهم من بكى على قساوة قلبه لحال هذا الطفل، ومنهم من قال اقتلوه، ولا تبقوا لأهل هذا البيت باقية.

فلمّا رأى ابن سعد ذلك صاح بحرملة بن كاهل (لعنه الله)، ويلك حرملة اقطع نزاع القوم قال: ما أصنع؟ قال: إرم الطفل بسهم، قال حرملة: فوضعت سهماً في كبد القوس وتأمّلت أين أرمي الطفل فرأيت رقبته تلمع على عضد أبيه الحسين كأنّها إبريق فضّة- آجركم الله يا مؤمنون- يقول اللعين فرميت الطفل بسهمي وذبحته من الوريد إلى الوريد رحم الله المنادي وا حسيناه، وا عبد الله، وا شهيداه..

قيل لهذا اللعين حرملة (لمّا جيء به إلى المختار الثقفيّ

رحمه الله والذي أخذ بثار الحسين وقتل كلّ المشاركين في قتله.. لمّا روى لهم هذه القصّة) قالوا له ويلك أما رقّ قلبك لهذا الرضيع؟! قال: بلى، قالوا: وكيف؟! قال: لأنّ الطفل كان مغمى عليه من شدّة العطش. فلمّا أحسّ

بحرارة السهم أخرج يديه من قماطه، واعتنق رقبة أبيه الحسين عليه السلام وصار يرفرف بين يديه كالطير المذبوح..

(آه) فَلَهْفِي لَهُ مُذْ طَوَّقَ السَّهْمَ جِيدُهُ                 كَما زَيَّنَتْهُ قَبْلَ ذَاكَ تَمائِمُهُ

وَلَهْفِي لَهُ لَمَّا أَحَسَّ بِحَرِّهِ                             وَناغاهُ مِنْ طَيْرِ المَنِيَّةِ حائِمُه

هَفا لِعِناقِ السِّبْطِ مُبتَسِمَ اللَّمَى                        وَداعاً وَهَلْ غَيرُ العِناق يُلائِمُه

آه گطع اگماطة او شبك عودة                        وامن السهم رفّت ازنودة

واتغيرت وردة اخدودة                                يا ناس حتّى الطفل مذبوح

ودمه على زند حسين مسفوح                        وين اليساعدني ويجي اينوح

قلبي على فرگاه مجروح

ثمّ أنّ الحسين ملأ كفّه من دم الرضيع ورمى به إلى السماء وقال: هوّن ما نزل بي أنّه بعينك يا ربّ، اللهم لا يكن أهون عليك من فصيل ناقة صالح، يا ربّ إن كنت حبست عنّا النصر من

السماء فاجعل ذلك لما هو خيرٌ منه وانتقم لنا من الظالمين، فنودي: دعه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة..


تلگه احسين دم الطفل بيده                      اشحال الينگتل ابحضنه اوليده

سال او ترس كفه من وريده                     اوذّبه للسما اوللگاع ما خرّ

وَلَوْ تَراهُ حَامِلاً طِفْلَهُ                             رَأَيْتَ بَدْراً يَحْمِلِ الفَرْقَدا

مُخَضَّباً مِنْ فَيْضِ أَوْداجِهِ                        أَلْبَسَهُ سَهْمُ الرَّدَى مُجَسَّدا

ثمّ أقبل الحسين برضيعه إلى المخيّم وقد حمله تحت ردائه، فاستقبلته ابنته سكينة قائلة: أبي لعلّك سقيت أخي الرضيع ماءً وجئتنا ببقيّته؟ فأخرجه الحسين من تحت ردائه وهو يقول:

بُنيّه خذي أخاك مذبوحاً، بنيّه عظّم الله لك الأجر، فصاحت: وا أخاه، وا عبد الله..

يبويه الطفل للماي أخذته                   ابسهم العده مذبوح جبته

شنهو الذنب خويه العملته                  والماي حاضر ما شربته

يبويه الطفل عني دغطيه                   مالي قلب بالعين أصد ليه


اشوفه ذبيح أو ماد رجليه         هذا الخفت منّه طحت بيه

أمّا أمّه الرباب فساعد الله قلبها حين رأته والسهم مشكوك في نحره، انفجعت وصاحت (واولداه):

(يبني) قول العطش يبني النوبه ابسهم صابوك                وترف مثل طير الذي ينذبح خلوك

يا بلت روحي تالي ابها الحالة ردّوك                           لمك عسن لا ظلت امك يا جنيني

يحقّ لها أن تبقى مندهشة وحزينة هذه الرباب المفجوعة آلت أن لا تستظلّ بظلّ بعد الحسين مواساة للحسين ولولدها الرضيع لكن كأنّها ما صدّقت ما رأت وبقيت مذهولة تندب ولدها إلى ليلة الحادي عشر من المحرّم، يقولون عندما صارت زينب عليها السلام تفتّش عن بقيّة العيال والأطفال الذين افتقدتهم بعد مصرع الحسين وحرق الخيام، افتقدت الرباب في جملتهم، فصارت تبحث عنها في نواحي المعركة (رباب أين أنت؟) إلى أن سمعت صوت أنين إلى جنب جسد المولى أبي عبد الله الحسين فأقبلت ناحية الصوت وإذا هي الرباب قد حملت رضيعها وأدنته لصدرها تناغيه وتكالمه فقالت لها سيّدتنا زينب: أختاه ما الذي أتى بك في

وسط هذا الليل المظلم؟! قالت: سيّدتي (لمّا أن شربنا الماء) صدري أوجعني وثدياي درّتا عليّ (وكأنّ هذه علامة عند الأمهات أن رضيعهن يطلب اللبن)، قلت آتي إلى رضيعي علّني أجد به رمقاً من الحياة، ولكنّي أراه مذبوحاً من الوريد إلى الوريد..


آه يبني يا عبد الله اعلى فرقاك                انا صبري انفنى ودرّن ثداياك

يا دين گلّي الحرملة اوياك                     للموت حين اشبحت عيناك

نيشن عليك ابسهم ورماك                     واگطع رجاي الكان برباك

وَأَدْنَتْهُ لِلْنَهْدَيْنِ وَلْهَى فَتَارَةً                    تُناغيهِ أَلطافاً وأُخْرى تُكالِمُه

بُنَيَّ أَفِقْ مِنْ سَكْرَةِ المَوْتِ وارتَضِع            بِثَدْيِكَ عَلَّ القَلْبَ يَهْدأُ هائِمُه

بُنَيَّ فَقَدْ دَرَّتا وَقَدْ كَظَّكَ الظَّما                   فَعَلَّكَ يُطْفَى مِنْ غَلِيلِكَ ضَارِمُه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى