المساجد بيوت الله تعالى

مقدّمة
إنّ المساجد بيوت الله ومهابط رحمته، فيها يُعبد وفيها يُذكر اسمه، وزوّاره فيها عُمَّارُها، فهي ملتقى المؤمنين من عباده وصفوته، وهي أحبُّ البقاع إلى الله تعالى، ومنارات الهدى وأعلام الدين، ومنطلق إعلان التوحيد لله سبحانه، وقلاع الإيمان كما أنّها مجالس للذكر، ومحراب للعبادة، ومواضع تسبيح وابتهال وتذلّل بين يدي الله سبحانه، ورغبة فيما عنده من الأجر الكبير، ومقام تهجّد وترتيل لكتاب الله وحفظ له، وغوص وراء معانيه، والناس يتعلَّمون فيها مبادئ دينهم وتعاليمه. بل هي أول المؤسسات التي انطلق منها شعاع العلم والمعرفة في الإسلام، وهي ميدان الشورى والتعارف والتآلف، والموئل الإيمانيّ الّذي تطمئنّ القلوب المؤمنة بارتياده، وتسكن النفوس النقيّة في كنفه.

المساجد وشرف نسبتها لله تعالى
يكفي المساجد شرفاً ومنزلة أنّ الله سبحانه وتعالى أضافها إلى ذاته العليّة، ونسبها إليه، فقال في فرقانه: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدً1، فتعلّقت قلوب المحبّين لله عزّ وجلّ بها، لنسبتها إِلَى محبوبهم، وارتاحوا إِلَى ملازمتها لإظهار ذكره فيها هذا مع أنّ جميع البقاع وما فيها ملك لله تعالى، ولكن المساجد لها زيادة مزيّة وشرف حيث تختصّ بالعبادات والطاعات والقربات، فإضافتها إلى الله تعالى تقتضي احترامها، واعتراف المسلمين بفضلها، فهي من خصائصهم، وفي فضلها وعظيم منزلتها ورد الكثير من النصوص الشريفة، فقد أولى القرآن الكريم للمساجد عناية كبيرة، ومن وجوه شتّى حيث تكرّر ذكر المسجد أو المساجد، والمسجد الحرام، ولفظ البيوت التي أذن الله أن تُرفع في ثمان وعشرين آية من كتاب الله.

وقد روي عن رجالات العترة النبويّة الطاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “قال الله تبارك وتعالى: ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد، تُضيء لأهل السماء كما تُضيء النجوم لأهل الأرض..”2.

وقال مولانا الإمام علي بن الحُسين عليهما السلام في جوابه لولده زيد الشهيد: “يا بني: المساجد بيوت الله، فمن سعى إليها، فقد سعى إلى الله، وقَصَدَ إليه، والمصلّي ما دام في صلاته، فهو واقف بين يدي الله جلّ جلالـه، وإنّ لله تعالى بقاعاً في سماواته، فمن عُرج به إلى بقعة منها، فقد عُرج به إليه ألا تسمع الله عزّ وجلّ يقول: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ3، ويقول في قصة عيسى عليه السلام: ﴿بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ4، ويقول عزّ وجلّ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ5″6.

المسجد وعناية آدم والخليل عليهما السلام
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ7، والمرويّ عن أهل بيت النبوّة أنّ أبا البشر آدم عليه السلام هو الذي بنى بيت الله الحرام، ومن ذلك ما ورد عن مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: “إنّ آدم عليه السلام هو الذي بنى البيت، ووضع أساسه، وأوّل من كساه الشعر، وأوّل من حجّ إليه،..”8.

وبعد أن وهب الله تعالى لخليله إبراهيم ولديه إسماعيل وإسحاق عليهم السلام حمد الله تعالى، وتوجّه إليه مبتهلاً بابتهالات عديدة، وكان من أمره أن أنزل أمّنا هاجر وولدها إسماعيل عليهم السلام في جوار أسس البيت الحرام، وابتهل إلى الله قائلاً: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ …9، وفيما بعد ذلك رفع الخليل إبراهيم وصادق الوعد إسماعيل عليهما السلام قواعد البيت الحرام، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ10.

قد جعل الله تعالى بيته الحرام أفضل المساجد وأقدمها في الأرض، قِبلةً لأفضل الأمم وخير الأديان، فالمسلمون في كلّ المساجد، يتّجهون بصلاتهم إلى ذلك المسجد، فهو بالنسبة للمساجد، كالإمام بالنسبة للمصلّين، والمسلم عندما يتوجّه إلى البيت الحرام لأداء الصلاة، فإنه يلبّي قول الله جلّ وعلا: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن ربِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ11.

ولعلّ في هذا التوجيه والتوحيد دلالة كبيرة على عِظم الأهميّة الّتي يُريد الله تعالى أن يزرعها في قلب كلّ مسلم للمسجد: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ12.

المسجد وآل عمران عليهم السلام
ممّا يدلّ على عظمة مقام المساجد عند الله تعالى ما حكاه عزّ وجلّ عن امرأة عمران حنة أم البتول الطاهرة مريم عليها السلام وأنّها لمّا حملت بها نذرتْ لله تعالى أن يكون ما في بطنها محرّراً، يعني عتيقاً يخدم المسجد الأقصى في أورشليم (القدس)، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ولولا أنّ خدمة المساجد ممّا يُتقرّب به إلى الله تعالى لما نذرتْ حنة امرأة عمران هذا النذر المبارك الميمون الذي خلّده الله تعالى في قرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ13.

المسجد بعد الهجرة النبويّة
بعد الهجرة النبويّة المباركة على مهاجرها الكريم وأهل بيته أفضل الصلاة وأزكى السلام كان المسجد أوّل المؤسّسات التي انطلق منها نور التوحيد وضياء العلم والمعرفة إلى الآفاق، وقد حمل المسجد خاصيّة عظيمة بالنسبة للمجتمع المسلم، وأضحى مصدراً أساس لانطلاقة الدعوة الإسلامية، ونبعاً للهداية الربّانية، فمِنْ على منبره يُعلّم الإيمان والعمل الصالح، وعلى أرضه الطاهرة تؤدّى العبادات والطاعات، ومن على دكّة قضائه يُحكم بالعدل ويُدفع الظلم، ويُصلح الفاسد، ويُحارب المنكر، وهو ميدان الشورى والتعارف والتآلف، والمرتكز الذي تسير منه قوافل المجاهدين المخلصين في سبيل الله، والمحور الذي تلتفّ حوله الأفكار والعواطف، والحضن الذي يُربّي الروّاد النجباء الذين يحملون مشاعل النور والهداية، ويطوفون بها البلاد حاملين صفات المسجد، وعبقه وطهره.

ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أنّ منه انبعثتْ أشعّة النور والهداية للمسلمين وغيرهم، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت، وهل كان عظماء التاريخ الإسلامي كسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد الكندي، وعمّار بن ياسر العبسي، وبلال الحبشي، وعلي الهاشمي القرشي إلا تلامذة المدرسة المحمّدية التي كان مقرها المسجد النبوي الشريف.

أذِن الله أن تُرفع
لمّا أراد الله تعالى أن يضرب مثلاً لنوره – ولله المثل الأعلى- قال تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ14.

في أيّ موضع جعل الله هذه الأمثال التي ضربها؟
قال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ..15، نعم في مساجد أنبياء الله تعالى وبيوت رسله الكرام، فقد روى بريدة الأسلمي، وأنس بن مالك أنّه لمّا نزلت هذه الآية المباركة سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ بيوت هذه؟

فقال: “بيوت الأنبياء”، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها – بيت علي وفاطمة؟

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “نعم، من أفاضلها”16.

ولكرامة هذا البيت الطاهر، ومن فيه من شموس الهداية ومنارات التقى وأعلام اليقين – الذين يُسبِّحون لله بالغدوّ والآصال، ولا تُلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة – فقد استثناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أمر بسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد دونه، وكان ذلك بأمر من الله تعالى17، ليُبيّن بذلك عظيم منزلتهم ومنتهى درجتهم.

المساجد وروّادها وشهادة الإيمان
قد ظلّ المسجد على امتداد تاريخ أهل الإسلام مؤسسة تعليميّة للصغار والكبار، وأوّل الأمكنة التي تُحقّق الأهداف العملية لتربية الناس عامّة والناشئة والشباب خاصّة، فالمساجد متعدّدة الأغراض متشعّبة المهام، وكان الرجال الأوائل الذين حملوا اللواء ولبّوا النداء إلى عزّ الأبد هم أشبال المساجد وعمّار بيوت الله تعالى، كذلك كان العلماء والفقهاء، والأدباء والبلغاء، والأتقياء والصلحاء من أفضل خرّيجيها، فكم نَوّرتْ المساجد قلوباً وعَمّرتْ أفئدة وأزالتْ عنها حميّة الجاهلية وغبش المعاصي، وانتزعتْ منها جذور الزيغ والضلال، وجعل منها بحول الله تعالى وقوّته أجيالاً مؤمنة تقية نقية، فائزة في الآخرة بضمان الملك الديّان18، فنعم البيوت المساجد، فهي أنوار الله19، ومجالس الأنبياء عليهم السلام20، وبيت كلّ مؤمن21. وهي بيوت الله في الأرض، فمن أتاها متطهّراً طهّره الله من ذنوبه، وكُتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء22. ومن كان المسجد بيته بنى الله له بيتاً في الجنّة23، وإنّ نقل الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة تغسل الخطايا غسلاً24، وتزيد من الحسنات25، لذلك قد وجّهنا بتوجيه إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان26، لأنّ الله سبحانه يقول: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَن بِالله27.

وإذا سُئِلتْ عمّن لم يشهد الجماعة فقل لا أعرفه28. وإنَّ بين الكفر والإيمان ترك الصلاة29.

وقد جعل الله سبحانه الجماعة في الصلاة لكي يُعرف من يُصلّي ممّن لا يُصلّي، ومن يُحافظ على مواقيت الصلاة ممّن يُضيّعها، ولولا ذلك لم يمكن لأحد أن يشهد على أحد بصلاح أو خير، لأنّ من لم يُصلّ في جماعة، فلا صلاة له بين المسلمين، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “لا صلاة لمن لم يُصلّ في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة”30.

أفضل الأماكن وأفضل الناس
لا شكّ أنّ الأزمنة والأمكنة متفاوتة من حيث الأجر والتقرّب إلى الله تعالى، ومن حيث الأهمّيّة، فبعضها محبوب أكثر إلى الله تعالى من بعض، وبعضها يُستجاب فيه الدعاء أكثر من البعض الآخر، ومن هنا كان للمسجد حظّ من ناحية المحبوبيّة لله تعالى أكثر من غيره من البقاع.

وكما أنّ هناك أزمنة وأمكنة محبوبة لله كذلك هناك أناسٌ محبوبون عند الله، فإنّ لله خواصاً في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وقد قضى الله تعالى أن يكون من هؤلاء الأشخاص روّاد المساجد وعُمّارها – أوّل الداخلين إليها وآخر الخارجين منها – قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمين جبريل عليه السلام: “يا جبرائيل أيّ البقاع أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟ قال: المساجد، وأحبّ أهلها إلى الله أوّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها”31.

وورد عن حفيد الرسالة الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: “ما من مسجد بُني إلّا على قبر نبيّ ،أو وصيّ نبيّ قتل، فأصاب تلك البقعة رشّة من دمه، فأحبّ الله أن يُذكر فيها، فأدِّ فيها الفريضة والنوافل، واقضِ فيها ما فاتك”32.

والمساجد هي الأماكن التي إليها يرجع المسافر أول ما يصل إلى بلده شاكراً الله سلامة العودة مستفتحاً أعماله بعد العودة بالصلاة في المسجد إشعاراً بأهمّيته وتقديمه على المنزل، وتذكيراً بنعمة الله سبحانه وتوثيقاً للرابطة القوية للمسجد، هكذا كان دأب خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه “كان إذا قدِم من سفَر بدأ بالمسجد، فَصلّى فيه ركعتين، ثم يُثَنّي بفاطمة عليها السلام، ثم يأتي أزواجه، وفي لفظ آخر: ثم بدأ ببيت فاطمة عليها السلام، ثم أتى بيوت نسائه”33.

المساجد وشباب الإسلام
إنّ أحبّ الخلائق إلى الله عزّ وجلّ الشاب حدث السنّ الذي جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، وذلك الّذي يُباهي الله به ملائكته الكرام34، والشابّ المتعبّد هو من السبعة الذين ذكرهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه… وشابّ نشأ في عبادة الله35. وإنّ أهل الجنّة شباب كلّهم36، وإنّ أصحاب الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف شباب37 أيضاً.

من هنا كانت المساجد تدعو الشباب إليها، فَهُم باكورة الحياة، وصدى العيش، وسنام المجد، ومصدر الحركة والعمل، لم تُلوّث قلوبهم حبائلُ الشياطين، ولم تفتنهمُ الدنيا بغرورها، ولم تُعمِ أبصارهم بزخارفها. وشيئان لا يُعرف قدرهما إلّا من بعد فقدهما: الشباب والعافية38.

وكان من دعاء وارث سيّدي شباب أهل الجنة مولانا الإمام علي بن الحُسين عليهما السلام: “اللهم .. لا تحل بيني وبين المساجد التي يُذكر فيها اسمك، ولا تجعلني من الغافلين عن ذكرك وشكرك”39.

وممّا تقدّم يتوضّح لنا تماماً أنّ مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الفكري والروحي، فهو جامعة للعلم، ومدرسة للرشد وندوة للأدب، وهو ساحة للعبادة التي تنصهر فيها النفوس، وتتجرّد من علائق الدنيا وفوارق الرتب والمناصب، وحواجز العُجب والكبر، وسكرة الأهواء والشهوات لتتلاقى في ساحة العبودية والإخلاص للباري جلّ شأنه.

لذلك يجب أن يكون المسجد مكاناً للوحدة لا للفرقة، ومركزاً للعبادة الخالصة لله، ويكون بنيانه من الأساس على التقوى، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ40.

* طلائع القلوب، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


  1. سورة الجن، الآية 18 ، وأحد الأقوال في تفسيرها أن المراد بالمساجد في الآية أماكن الصلاة.
  2. الشيخ الصدوق محمد بن علي، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص28، طبعة:2، دار الشريف الرضي للنشر، قم، ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث بن عباس موقوفاً، المعجم الكبير، ج10، ص262، طبعة:2، دار العلوم والحكم، الموصل.
  3. سورة المعارج، الآية 4.
  4. سورة النساء، الآية 158.
  5. سورة فاطر، الآية 10.
  6. الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن الحسبن بن موسى بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص199-200، طبعة:2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
  7. سورة آل عمران، الآية 96.
  8. الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج‏2، ص229، باب في حج الأنبياء والمرسلين.
  9. سورة إبراهيم، الآية 37.
  10. سورة البقرة، الآية 127.
  11. سورة البقرة، الآية 144.
  12. سورة الأعراف، الآية 29.
  13. سورة آل عمران، الآيات 35-37.
  14. سورة النور، الآية 35.
  15. سورة النور، الآية 36 .
  16. جلال الدين السيوطي، الدر المنثور، ج6، ص203، طبعة دار الفكر، وقال: أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة. أهـ، وكذلك رواه عنهماأحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري، الكشف والبيان، ج7، ص107، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، وذكره الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، وشهاب الدين الآلوسي في روح المعاني، وغيرهم .
  17. عن زيد بن أرقم قال كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “سدّوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلّم في ذلك الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد، فإنّي أمرتُ بسدّ هذه الأبواب إلا باب علي، وقال فيه قائلكم، وإنّي والله ما سددتُ شيئاً ولا فتحته، ولكنّي أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُ”، يراجع أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج7، ص15، طبعة: دار المعرفة، بيروت، وقال ابن حجر العسقلاني بعد أن ساق هذا الحديث: أخرجه أحمد والنسائي والحاكم، ورجاله ثقات.
  18. من حديث سلمان المحمدي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : “المسجد بيت كلّ تقيّ، وقد ضمن الله عزّ وجلّ لمن كان المساجد بيوته الروح والرحمة والجواز على الصراط”، يراجع المعجم الكبير للطبراني، ج6، ص254، حديث رقم 6143، طبعة:2، مكتبة العلوم والحِكم، الموصل.
  19. المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج3، ص448، حديث رقم 20.
  20. م. ن، ج3، ص 363، ضمن الحديث 18.
  21. حسام الدين المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، ج7، ص650، حديث رقم: 20736.
  22. الشيخ الصدوق، الأمالي، ص293، حديث رقم 8.
  23. ثواب الأعمال، ص 27، والنهاية للشيخ الطوسي، ص108.
  24. القاضي النعماني، دعائم الإسلام، ج 1، ص 154.
  25. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 88، ص 7، ضمن الحديث 9.
  26. ابن أبي جمهور، غوالي اللئالي، ج2، ص32، ح 79.
  27. سورة التوبة، الآية 18.
  28. الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي، الألفيّة، والنفليّة، ص139.
  29. محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، سنن الترمذي، ج 4، ص 125.
  30. الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص325 .
  31. الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص489.
  32. م. ن، ، ج3، ص371.
  33. أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، ج22، ص 225، حديث رقم 595، ورقم 596.
  34. حسام الدين المتقي الهندي، كنز العمّال، ج15، ص785، حديث رقم: 43103.
  35. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 84، ص2، والخصال، ص343، ضمن الحديث: 2.
  36. ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص164.
  37. غيبة الطوسي، ص284، حديث رقم: 18.
  38. شرح غرر الحكم، ج4، ص183.
  39. السيد أبن طاووس علي بن موسى، إقبال الأعمال، ج1، ص443، طبعة:2، دار الكتب الإسلامية، طهران.
  40. سورة التوبة، الآية 108.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى